باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالا 1
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا وكيع وأبو معاوية، قالا: حدثنا الأعمش، عن شقيقعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من حلف على يمين، وهو فيها فاجر، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان" (1).
إلْحاقُ الضَّررِ والأَذى بالنَّاسِ أمْرٌ مُستقبَحٌ في الدُّنيا، وجالِبٌ لصاحبِه الخُسرانَ والبَوارَ في الآخرةِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبْدُ الله بنُ مَسْعودٍ رَضيَ اللهُ عنه -ظاهرُ هذه الرِّوايةِ أنَّها مَوقوفةٌ على ابنِ مَسعودٍ، لكنْ رُوِيَت أيضًا في الصَّحيحينِ مَرفوعةً إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُؤيِّدُ ذلك أيضًا رِوايةُ الأشعَثِ بنِ قَيسٍ رَضيَ اللهُ عنه في هذا الحديثِ- أنَّ مَن حَلَفَ على يَمينٍ، أي: على ما شَأنُه أنْ يكونَ مَحلوفًا عليه، يَحوزُ بتلك اليَمينِ مالًا لِغَيرِه، وهو في هذه اليَمينِ «فاجِرٌ»، أي: كاذِبٌ؛ لَقِيَ اللهَ وهو عَلَيه غَضْبانُ، وصِفةُ الغَضبِ ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ على الوَجهِ الَّذي يَليقُ بجَلالِه وعَظَمتِه، ولا يُشبِهُ غَضَبَ المَخلوقينَ؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. فأنزَلَ اللهُ تَصديقَ ذلِك في كِتابِه العزيزِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ}، أي: يَستبدِلون؛ وذلك لأنَّ المُشترِيَ يَأخُذُ شَيئًا ويُعطي شَيئًا، فكلُّ واحدٍ مِن المُعطى والمأخوذِ ثَمَنٌ للآخَرِ، {بِعَهْدِ اللَّهِ}، أي: بما عاهَدوا عليه مِنَ الإيمانِ بِالرَّسولِ والوَفاءِ بالأماناتِ، {وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} والمرادُ بأيمانِهم: الأيمانُ الكاذبةُ التي يَحلِفُونها ليُؤكِّدوا ما يُرِيدون تَأكيدَه مِن أقوالٍ أو أفعالٍ، والمعْنى: يَستبدِلون بعَهْدِ اللهِ وأيْمانِهم حُظوظَ الدُّنيا وشَهواتِها الزائلةَ، نحْوَ المالِ والمنافعِ وغيرِها. ووُصِفَ الثَّمنُ هنا بالقِلَّةِ تَحقيرًا له؛ إذ إنَّه نَظيرُ خِيانةِ عهْدِ اللهِ، والاجتراءِ على اليمينِ الكاذبةِ، فلا يكونُ إلَّا قَليلًا وإنْ بَلَغَ ما بَلَغَ مِن أعراضِ الدُّنيا، بجانبِ رِضا اللهِ والوَفاءِ بعُهودِه. ثمَّ ذَكَرَ سُبحانه عُقوبةَ مَن تَلبَّسَ بهذه الكبيرةِ فقال: {أَولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ}، يعني: لا نَصيبَ لهم ولا حَظَّ في نَعيمِ الآخرةِ، ولا يُكلِّمُهمُ اللهُ بما يَسُرُّهم، بلْ يُكلِّمُهم بما يَسُوؤهم ويُخْزِيهم، {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، أي: ولا يَنظُرُ إليهم نَظَرَ رَحمةٍ وعطْفٍ ولا نَظرًا يَسُرُّهم، {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} مِنَ الذُّنوبِ وَالأدناسِ بالمغفرةِ، ولا يُثْني عليهم كما يُثْني على الصالحينَ مِن عِبادِه، بلْ يَسخَطُ عليهم ويَنتقِمُ منهم جَزاءَ غَدْرِهم، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُوجعٌ بسَببِ ما ارْتَكبوه.
ثُمَّ أخبَرَ التَّابعيُّ أبو وائلٍ شَقيقُ بنُ سَلَمةَ أنَّ الأشْعَثَ بنَ قَيْسٍ رَضيَ اللهُ عنه خَرَج عليهم مِن المَكانِ الَّذي كانَ فيه، فسَأَلَهم عمَّا حَدَّثَهم به عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ -وكُنيتُه أبو عبْدِ الرَّحمنِ- فأخْبَروه بما حَدَّثَ، فقال الأشعثُ رَضيَ اللهُ عنه: صَدَقَ، ثمَّ بَيَّن أنَّ الآيةَ نَزَلَت فيه، وذكَرَ أنَّه كانَت بيْنه وبيْن رَجُلٍ -اسمُه مَعْدانُ بنُ الأسودِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ الكِندِيُّ- خُصومةٌ في مِلكِيَّةِ بِئرٍ، فاحتَكَمَا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم للأشعثِ: «شاهِداك»، أي: لِيَحضُرْ أو ليَشْهَدْ شاهِداك، والمرادُ: المَجيءُ ببَيِّنةٍ؛ وذلك أنَّ الأشعَثَ رَضيَ اللهُ عنه هو مَن ادَّعَى أنَّ البِئرَ مِلْكُه، وكانت البئرُ في حَوزةِ الرَّجُلِ وتَصرُّفِه، «أو يَمينُه»، يعني: يَحلِفُ خَصْمُك المدَّعى عليه يَمينًا إنْ لم يكُنْ لك بيِّنةٌ، فقال الأشعَثُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه -أي الرَّجُل- إذنْ يَحلِفُ ولا يُبالي، أي: لا يَكترِثُ بالحَلِفِ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ الأشعَثَ رَضيَ اللهُ عنه ليس عندَه بيِّنةٌ، ثمَّ ذكَرَ الحديثَ بمِثلِ ما ذَكَرَه ابنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه. وقد ورَدَ عندَ أبي داودَ أنَّ الكِنديَّ -وهو المدَّعى عليه- تَهيَّأَ للحَلِفِ، فذكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا الوعيدَ قبْلَ يَمينِه، فقال الكِنديُّ: «هي أرْضُه».
وفي الحديثِ: كَلامُ الخُصومِ بَعضِهم في بَعضٍ.
وفيه: أنَّ البيِّنةَ على المُدِّعي، واليَمينَ على المُدَّعى عليه إذا أنكَرَ.
وفيه: النَّهيُ عن استِحلالِ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ.
وفيه: سَبَبُ نُزولِ آياتِ الأَيْمانِ في سُورةِ آلِ عِمْرانَ.