باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد
بطاقات دعوية
عن عَمْرِو بنِ تَغِلبَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بمالٍ أوْ سَبْيٍ، فقسَمهُ، فأَعطى رجالاً، وتركَ رجالاً، فبلَغهُ أنَّ الذينَ ترَكَ عَتَبوا [عليه ]، فحَمِدَ الله ثم أَثنى عليهِ، ثم قالَ:
"أَمَّا بعدُ، فوالله إِني لأُعطي الرَّجلَ، وأَدَعُ الرَّجلَ، والذي أَدَعُ أَحبُّ إِليَّ من الذي أُعطي، ولكنْ أُعطي أَقواماً لِما أَرى في قلوبِهمْ منَ الجَزَعِ والهَلَعِ، (وفي روايةٍ: أَخاف ضَلَعَهم وجزَعَهم)، وأَكِلُ أَقواماً إِلى ما جَعلَ الله في قلوبِهم منَ الْغنَى والخيرِ، فيهم (وفي روايةٍ: منهم) عَمْرُو بنُ تَغْلِبَ". فوالله ما أُحبُّ أنَّ لي بكلِمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُمْرَ النَّعَمِ.
كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَريصًا كلَّ الحِرصِ على أنْ يَدخُلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أفواجًا؛ فكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتألَّفُ قُلوبَهم بما يُحِبُّون؛ فمَنْ أحَبَّ المالَ أَجزَلَ له العَطاءَ، ومَن أحَبَّ الفَخْرَ وعِظَمَ المَنزلةِ جَعَل له حَظًّا منها، ومَن كان شَديدَ الإيمانِ وَكَلَ جَزاءَه إلى اللهِ يُكافِئُه على إيمانِه.ويُخبِرُ عَمرُو بنُ تَغلِبَ رَضيَ اللهُ عنه
في هذا الحديثِ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا جاءَه المالُ أو السَّبيُ -وهو ما يُؤخَذُ مِن العدوِّ مِن الأسرى، عَبيدًا أو إماءً- أَعْطى بَعضَ النَّاسِ؛ تَأليفًا لقُلوبِهم، وترَكَ البعضَ الآخَر ثِقةً بهم؛ لِما منَحَهم اللهُ مِن قوَّةِ الإيمانِ واليقينِ، ثمَّ عَلِمَ أنَّ بَعضَ مَن لم يَأخُذْ عَتَبوا عليه عدَمَ إعطائِهم، فخطَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبيَّن لهم أنَّه إنَّما يُعطي أناسًا ويَمنَعُ آخَرينَ، ومَن يَمنَعُهم أحَبُّ إليه ممَّن أعْطاهم، ولكنَّه يُعطي بَعضَ الناسِ لِمَا يَرى في قُلوبِهم مِن الجزَعِ والهلَعِ، وهما شدَّةُ الخوفِ وعدَمُ الصَّبرِ، ويَترُكُ بَعضًا ليس احتقارًا لهم، ولا لنَقْصِ دِينِهم، ولا إهمالًا لجانبِهم؛ بلْ يَكِلُهم إلى ما جعَلَ اللهُ في قُلوبِهم مِن النُّورِ والإيمانِ التَّامِّ، ويَثِقُ بأنَّهم لا يَتزلْزَلُ إيمانُهم؛ لكَمالِه، ثمَّ ذكَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ عَمرَو بنَ تَغلِبَ مِن بَينِ مَن لم يُعطِهْم ثِقةً في إيمانِهم وما في قُلوبِهم مِنَ الخَيرِ، ولَمَّا سَمِعَ عمرُو بنُ تَغلِبَ رَضيَ اللهُ عنه هذا الكلامَ مِن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَنِعَ وفَرِحَ به، وقال: فواللهِ، ما أُحِبُّ أنَّ لي بكَلِمةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ، وحُمْرُ النَّعَمِ: كِرامُ الإبلِ وأعْلاها مَنزِلةً، وهو الَّذي لم يُخالِطْ حُمرتَه شَيءٌ، والمعنى: ما أُحِبُّ أنَّ لي بدَلَ كَلمتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَتاعَ الحياةِ الدُّنيا.
وفي الحديثِ: تَوضيحُ الأعذارِ لإزالةِ ما في النُّفوسِ.
وفيه: حُسْنُ خُلُقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وطِيبُ عِشرتِه لأصحابِه.
وفيه: بَيانٌ لتَفاوُتِ الإيمانِ في القُلوبِ، وأنَّه يَزيدُ ويَنقُصُ.
وفيه: مَنقَبةٌ لعَمرِو بنِ تَغلِبَ وبيانٌ لفَضلِه رَضيَ اللهُ عنه.