‌‌باب: ومن سورة الأحزاب4

سنن الترمذى

‌‌باب: ومن سورة الأحزاب4

حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، عن موسى، وعيسى، ابني طلحة عن أبيهما طلحة، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسألته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أين السائل عمن قضى نحبه؟» قال الأعرابي: أنا يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا ممن قضى نحبه». هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن بكير

في هذا الحَديثِ يَحكي طلحةُ رضِيَ اللهُ عنه: "أنَّ أصحابَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قالوا لأعرابيٍّ جاهلٍ: سَلْهُ"، أي: اسأَلِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، والأعرابيُّ: هو الَّذي يسكُنُ الصَّحْراءَ مِن العرَبِ، "عمَّن قضَى نَحْبَه، مَن هو؟"، أي: مَنِ المرادُ في قولِه تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23]؛ أي: أجَلَه فمَاتَ على الوفاءِ، أو قُتِلَ في سبيلِ اللهِ؟ قال طَلْحةُ: "كانوا لا يَجترِئون على مسألتِه"، أي: إنَّ صحابةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أوكَلوا هذا السُّؤالَ للأعرابيِّ، والاجتِراءُ بمعنى الإقدامِ والجَسارةِ على الأمرِ دُونَ هَيبةٍ أو تردُّدٍ، وقد ورَد النَّهيُ النَّبويُّ عن كَثرةِ السُّؤالِ؛ حتَّى لا يَكونَ سببًا في تَحريمِ أو تضييقِ أمرٍ كان فيه سَعةٌ، وقد ورَد هذا المعنى في القرآنِ مُجمَلًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
وقولُه: "يُوقِّرونَه ويَهابونه"، أي: إنَّ عدمَ اجترائِهم على سُؤالِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لِمَا كان بهم مِن التَّوقيرِ والهَيبةِ والاحترامِ لِمَقامِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فسأَله الأعرابيُّ"، أي: سأَل النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم هذا السُّؤالَ، "فأعرَض عنه"، أي: امتنَع عن إجابتِه، "ثم سأَله فأعرَض عنه، ثمَّ سأَله فأعرَض عنه"، أي: أعاد الأعرابيُّ السُّؤالَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ثلاثَ مرَّاتٍ، وفي كلِّ مرَّةٍ يُعرِضُ عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في الإجابةِ، وهذا إشارةٌ لِما سبَق مِن قولِه: إنَّه جاهلٌ، يُريدُ أنَّه لم يُميِّزْ حالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وإعراضَه عنه.
قال طَلحةُ رضِيَ اللهُ عنه: "ثمَّ إنِّي اطَّلَعْتُ"، أي: دخَلْتُ، "مِن بابِ المسجدِ وعلَيَّ ثيابٌ خُضْرٌ"، أي: لونُها أخضرُ، "فلمَّا رآني النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال: أين السَّائلُ عمَّن قضَى نحبَه؟" قال الأعرابيُّ: "أنا يا رسولَ اللهِ"، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "هذا"، أي: طَلْحةُ، "ممَّن قضى نَحْبَه"، أي: إنَّه ممَّن وفَّى بنَذْرِه وعَزْمِه على أنَّه يموتُ في سبيلِ اللهِ تعالى، فقد مات أو حارَب كما نذَرَ، وقدْ كان مِن الصَّحابةِ مَن عزَموا أنَّهم إذا لَقُوا حربًا ثبَتوا حتَّى يُستَشْهَدوا، فعُدَّ طَلْحةُ ممَّن وفَّى بذلك.
وفي الحَديثِ: بيانُ ما كان في الصَّحابةِ مِن احترامٍ وتَوقيرٍ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، مع شَغَفِهم بالسُّؤالِ والتَّعلُّمِ منه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
وفيه: مَنقَبةُ جليلةٌ لطَلْحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه.
وفيه: عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ، حيثُ ظلَّ طلحةُ رضِيَ اللهُ عنه يُجاهِدُ في سَبيلِ اللهِ حتى قُتِلَ شهيدًا في سبيل الله.