باب ومن سورة الجن1
سنن الترمذى
حدثنا عبد بن حميد قال: حدثني أبو الوليد قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم،» انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب فقالوا: ما حال بيننا وبين خبر السماء إلا أمر حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء؟ قال: فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. قال: فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا {إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} [الجن: 2] فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1] وإنما أوحي إليه قول الجن "
بُعِثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للثَّقَلينِ الإنسِ والجِنِّ، وختَمَ اللهُ ببَعثتِه الرِّسالاتِ، فلا يُصدَّقُ أحدٌ في غَيبٍ، ولا في نقْلٍ عن اللهِ عزَّ وجلَّ لم يُخبِرْ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ الشَّياطينَ كانوا يَتسمَّعون إلى السَّماءِ خُفيةً قبْلَ بَعثةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا بعَثَ اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرسَلَ عليهم الشُّهُبَ، وهُو شُعلةُ نَارٍ ساطعةٌ كأَنَّها كَوْكبٌ مُنقَضٍّ، وصاروا لا يَستطيعون فِعلَ ما كانوا يَفعَلون مِن جُلوسِهم لسَماعِ الخبرِ مِن السَّماءِ، وهذا ما أخبَرَ عنه تعالى بقولِه: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8، 9]، فلمَّا رأتِ الشَّياطينُ ما حدَثَ، ومَنْعَهم مِن الاستِماعِ إلى خَبرِ السَّماءِ؛ قالوا: إنَّ هذا سَببُه شَيءٌ حدَثَ، فقال لهم قَومُهم مِن الجِنِّ -ولعلَّ المرادَ بهم: زُعماؤهم ورُؤساؤُهم-: انْطلِقوا في كلِّ مكانٍ؛ لتَعلَموا ما الحدَثُ الَّذي منَعَكم مِن الاستِماعِ إلى خبَرِ السَّماءِ كما كان يَحدُثُ، وقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مع طائفةٍ مِن أصحابِه في سُوقِ عُكَاظٍ، وكان بناحيةٍ مِن نَواحي مكَّةَ، وهو سُوقٌ كان يَجتمِعُ فيه العرَبُ، فكانت فيه مَتاجِرُهم ويُلْقون فيه قَصائدَهم، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخرُجُ إليهم، فيَدْعوهم إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، فلمَّا انطلَقَ الجِنُّ نحوَ تِهامةَ، وهي مَكانٌ بمكَّةَ، كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بنَخْلَةَ، وهي مَكانٌ بمكَّةَ أيضًا، وكان يُصلِّي بأصحابِه صَلاةَ الفجرِ، فلمَّا سَمِعوا القُرآنَ عَلِموا أنَّ هذا هو السَّببُ في رَمْيِهم بالشُّهبِ، ومَنْعِهم مِن التَّجسُّسِ على أخبارِ السَّماءِ، فعادُوا إلى قَومِهم وأخبَرَوهم بما سَمِعوا مِن القُرآنِ، فنزلَتْ سُورةُ الجِنِّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تُخبِرُه بما حدَثَ وحَديثَهم الذي تَحدَّثوا به فيما بيْنهم.
وفي الحديثِ: دَلالةٌ على وُجودِ الجِنِّ، وعدَمِ مَعرفتِهم بالغَيبِ، ولا شَيءٍ مِن أمرِ السَّماءِ إلَّا بما أخبَرَ به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: الجَهرُ بالقِراءةِ في صَلاةِ الفجْرِ.
وفيه: حِرصُ الداعيةِ على الذَّهابِ للناسِ في مَحافِلِهم وتَجمُّعاتِهم؛ لدَعوتِهم وتَعليمِهم أُمورَ دِينِهم.