باب: ومن سورة المائدة11
سنن الترمذى
حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن أبي القاسم، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: خرج رجل من بني سهم، مع تميم الداري وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدمنا بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب، «فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ثم وجدوا الجام بمكة، فقيل: اشتريناه من عدي وتميم، فقام رجلان من أولياء السهمي، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} [المائدة: 106]: «هذا حديث حسن غريب وهو حديث ابن أبي زائدة»
الأمانةُ مِن صِفاتِ المسلمِ، وقد حَثَّ الإسلامُ على اصطحابِ المؤتَمَنين والمتَّقين في السَّفرِ؛ حتَّى يَكونوا خَيرَ عَونٍ لغيرِهِم.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رجُلًا مُسلِمًا قيلَ: اسمُه بُزَيلٌ، مِن بَني سَهمٍ القُرَشيِّين خرَجَ مُسافرًا مع تَميمٍ الدَّاريِّ -وكان رَضيَ اللهُ عنه حِينَها نَصرانيًّا- وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ -وكان نَصرانيًّا ومات على ذلك-، فمات السَّهميُّ بأرضٍ ليسَ فيها مُسلِمٌ، وكانَ كَتَب وَصيَّتَه ووَضَعَها داخِلَ مَتاعِه، ثُمَّ أوصاهُما بإيصالِ مالِه لأهلِه، فلمَّا تَسلَّمَ أهلُه مالَه ومَتاعَه ووَجَدوا الوصيَّةَ، عَلِموا نَقْصَ شَيءٍ مِن أشيائِه، وهو جَامٌ، وهو إناءٌ، قِيلَ: كأسٌ بها فِضَّةٌ ومُخَوَّصٌ، أي: مَخيطٌ ومَنقوشٌ بالذَّهَبِ، فأبْلَغوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى يَحكُمَ فِيهما، فأحْلَفَهما النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم فحَلفَا، وظاهِرُه أنَّهما كَذَبَا في حَلِفِهما، ثمَّ إنَّ الجامَ وُجِدَ في مكَّةَ، وأخبَرَ مَن كان مَعه بأنَّه اشتراهُ مِن تَميمٍ الدَّاريِّ وعَدِيِّ بنِ بَدَّاءٍ، فقام رَجُلانِ مِن أوليائِه –هما عَمرُو بنُ العاصِ والمُطَّلِبُ بنُ أبي وَداعةَ السَّهميَّانِ رَضيَ اللهُ عنهما- فحَلفَا بأنَّ الجامَ لِصاحبِهما بُزَيلٍ، وأنَّ يَمينَهما أحقُّ وأصدَقُ مِن يَمينِ تَميمٍ وعَديٍّ. وفيهما نَزَل قولُه تعالَى حاثًّا على كِتابةِ الوَصيَّةِ والإشهادِ عليها، خاصَّةً في السَّفرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}؛ فالآيةُ تَدْعو كاتبَ الوصيَّةِ -وبالأخصِّ مَن قرُبَ عهْدُه بالموتِ بنحْوِ مَرَضٍ أو كِبَرٍ- أنْ يُشهِدَ على وَصيَّتِه تلك رجُلَين يتَّصِفَا بصِفةِ العدالةِ، {أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}، أي: مِن غيرِ قَبيلتِكم؛ وذلك أنَّ الغالبَ في الوصيَّةِ أنَّ الموصِي يُشهِدَ أقْرباءَهُ وعَشيرتَه، أو مِن غيرِ قَومِكم مِن أهْلِ الملَّةِ، وذلك عندَ الحاجةِ والضَّرورةِ وعدَمِ غيرِهما مِن المسلمينَ. {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ}، أي: سافَرْتُم ذاهبِينَ وراجِعينَ {فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ}، والمعنى: أنَّه يَجِبُ على هذَين الشَّاهدَين أنْ يُؤدِّيَا ما استُؤمِنَا وشَهِدا عليه إلى وَرَثتِه والموصَى لهمْ، ولا يَكتمانِ شَيئًا مِن ذلك، {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} فإنْ وُجِدَ مِن القرائنِ ما يدُلُّ على كَذِبِهما وأنَّهما خانَا {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 106- 107]، أي: فلْيَقُمْ رجُلانِ مِن أولياءِ الميِّتِ، وليَكونَا مِن أقربِ الأولياءِ إليه، فيُبيِّنا كَذِبَ هذَين الشَّاهدينِ، ويُقسِمَا أنَّ شَهادتَهم أحقُّ مِن شَهادتِهِما، فيَستحِقُّون منهما ما يَدَّعُون.