باب: ومن سورة فاتحة الكتاب4
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن المثنى، وبندار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضلال» فذكر الحديث بطوله
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أحرصَ النَّاسِ على هِدايةِ الخَلقِ إلى الإسلامِ والتوحيدِ، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يَسْعَى في حاجةِ السَّائلِين، ولا يُولِّي عنهم حتَّى يَقضِيَها لهم، وفي هذا الحديثِ يقولُ عَدِيُّ بنُ حاتمٍ الطَّائيُّ رضِيَ اللهُ عَنه: "أتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وهو جالِسٌ في المسجدِ"، وكان ذلك قبلَ إسلامِ عَدِيٍّ، فقال القومُ: "هذا عَدِيُّ بنُ حاتمٍ، وجئتُ بغيرِ أمانٍ ولا كِتابٍ"، أي: إنَّهم لَمَّا عرَفوه ولم يَكُنْ له أمانٌ مُسبَقٌ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ وذلك لأنَّ عَدِيًّا كان نَصْرانيًّا ولَمَّا بُعِث النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالإسلامِ كَرِه عَديٌّ ذلك وفرَّ إلى بلادِ الرُّومِ، ولكنَّه ضاق بمُقامِه عِندَهم، ثمَّ عَلِم أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مَنَّ على أُختِه، وأطلَقَها بعدَ أنْ أخَذَتها خَيلٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فجاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، سَنةَ عَشرٍ مِن الهِجرةِ، فأخَذوه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، قال عَديٌّ: "فلمَّا دفَعتُ إليه"، أي: إنَّهم لَمَّا أخَذوه إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "أخَذ بيَدي"، أي: أمسَك النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بيدِه مُرحِّبًا به ومُطَمئِنًا له، "وقد كان قال قَبلَ ذلك: إنِّي لأَرجو أن يَجعَلَ اللهُ يدَه في يَدي"، أي: وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قد دعا اللهَ أن يَجعَلَ يدَ عَديٍّ في يدِه، وهذا كِنايةٌ عن دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أن يَهدِيَه اللهُ إلى الإسلامِ.
قال عَديٌّ: "فقام"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فلَقِيَتْه"، أي: استَوقَفَتْه، "امرأةٌ وصبيٌّ معَها، فقالَا: إنَّ لنا إليك حاجةً"، أي: قاصِدين النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لِقَضاءِ حاجَتِهما وأمرِهما، "فقام معَهما"، أي: النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "حتَّى قَضَى حاجتَهما"، قال عَديٌّ: "ثمَّ أخَذ بيَدي حتَّى أتى بي دارَه"، أي: ذهَب النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم به إلى مَنزِلِه، "فألقَتْ له الوَليدةُ"، أي: الأَمَةُ المملوكةُ، "وِسادةً فجلَس عليها، وجلَسْتُ بينَ يدَيْه"، أي: جلَستُ أمامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في مُقابَلتِه، "فحَمِد اللهَ وأثْنَى عليه، ثمَّ قال: ما يُفِرُّك أن تَقولَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟"، أي: يَستنكِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على عَدِيٍّ أنَّه يَفِرُّ ويَهرُبُ مِن الإسلامِ والتَّوحيدِ للهِ عزَّ وجلَّ؛ "فهل تَعلَمُ مِن إلهٍ سِوى اللهِ؟"، فقال عَدِيٌّ: "لا، ثمَّ تَكلَّمَ ساعةً"، أي: جعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُحدِّثُه ويتَكلَّمُ معَه بعضًا مِن الوقتِ، ثمَّ قال لِعَديٍّ: "إنَّما تَفِرُّ"، أي: تَمتنِعُ وتَهرُبُ مِن "أن تَقولَ: اللهُ أكبَرُ، وتَعلَمُ أنَّ شيئًا أكبَرُ مِن اللهِ؟"، أي: هل تَعلَمُ شيئًا أكبَرَ مِن اللهِ يَمنَعُك مِن قولِها؟ قال عَدِيٌّ: "لا"، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فإنَّ اليهودَ مَغضوبٌ عليهم"، أي: هُم المغضوبُ عَليهِم، "وإنَّ النَّصارى ضُلَّالٌ"، أي: هم الضَّالُّون، وهو مُرادُ قولِ اللهِ تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6- 7]، وقد كان عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ نَصرانيًّا، فكأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أوضَح له ضَلالَ ما هو عليه مِن النَّصرانيَّةِ، فقال عَدِيٌّ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فإنِّي جِئتُ مُسلِمًا"، قال عَديٌّ: "فرأَيتُ وجهَه تبَسَّط فرَحًا"، أي: ظهَرَتْ على وجهِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عَلاماتُ الفرَحِ والسُّرورِ بإسلامِ عَديٍّ.
قال: "ثمَّ أمَر بي، فأُنزِلتُ عِندَ رجلٍ مِن الأنصارِ"، أي: وُكِّل لرَجُلٍ مِن الأنصارِ ضِيافةُ عَديٍّ ونزَل معَه في بيتِه، "جَعَلتُ أَغْشاه"، أي: جعَل يتَردَّدُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "آتيه طرَفَيِ النَّهارِ"، أي: في الصَّباحِ والمساءِ، "فبَيْنا أنا عِندَه عَشيَّةً"، أي: وبينَما هو عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مَساءَ يومٍ، "إذ جاءَه قومٌ في ثِيابٍ مِن الصُّوفِ مِن هذه النِّمارِ"، أي: أتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بعضُ الرِّجالِ، والنَّمِرةُ: كِساءٌ صوفٌ مُخطَّطٌ كأنَّه على هيئةِ جِلدِ النَّمِرِ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّهم سأَلوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بعضَ حاجَتِهم، "فصلَّى وقام"، أي: فصلَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وقام خَطيبًا في النَّاسِ، "فحَثَّ عليهم"، أي: جعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَحُثُّ النَّاسَ في خُطبتِه على العَطاءِ والصَّدَقةِ لهؤلاءِ القومِ، "ثمَّ قال"، أي: وممَّا قاله النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في ذلك: "ولو صاعٌ"، أي: تصَدَّقوا ولو بقَدْرِ صاعٍ، والصَّاعُ: أربَعةُ أمدادٍ، والْمُدُّ مِقدارُ ما يَملَأُ الكفَّين، "ولو بنِصْفِ صاعٍ، ولو بقَبضَةٍ"، أي: ولو بقَدْرِ ما يَملَأُ كفَّ اليدِ الواحدةِ، "ولو بَبعضِ قَبضةٍ، يَقي أحدُكم وَجْهَه حرَّ جهنَّمَ، أو النَّارَ"، أي: إنَّ التَّصدُّقَ ولو بالقليلِ يكونُ سببًا في عِتْقِ صاحبِه مِن النَّارِ، "ولو بِتَمرةٍ ولو بشِقِّ تمرةٍ"، أي: بجُزءٍ منها، أو بنِصْفِها؛ "فإنَّ أحَدَكم لاقِي اللهِ، وقائلٌ له ما أقولُ لكم"، أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عِندَما يأتيه عبدُه للحسابِ يقولُ له عزَّ وجلَّ: "ألَم أجعَلْ لك سَمعًا وبصَرًا؟" فيقولُ العبدُ: "بلى"، فيقولُ اللهُ تعالى: "ألَم أجعَلْ لك مالًا ووَلدًا؟"، فيقولُ العبدُ: "بَلى"، فيقولُ اللهُ تعالى: "أينَ ما قدَّمتَ لنَفسِك؟"، أي: أين أعمالُك الصَّالحةُ؟! "فيَنظُرُ"، أي: العبدُ، "قُدَّامَه وبَعْدَه وعَن يَمينِه وعن شِمالِه ثمَّ لا يَجِدُ شيئًا يَقي به وجْهَه"، أي: ليس له مِن الأعمالِ الصَّالحةِ ما يَمنَعُه مِن دُخولِ النَّارِ.
ثُمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فإنِّي لا أَخافُ عليكم الفاقةَ"، أي: الفَقرَ، والمرادُ: أنَّ العطاءَ والصَّدَقةَ لن يَكونَا سببًا في فَقرِكم؛ "فإنَّ اللهَ ناصِرُكم"، أي: على أعدائِكم، "ومُعْطيكم"، أي: سيَرزُقُكم الخيرَ، ويُكثِرُ لكم فيه ممَّا سيَفتَحُ لكم مِن هذا النَّصرِ، "حتَّى تَسيرَ الظَّعينةُ"، أي: المرأةُ المسافِرةُ، وأصلُها المرأةُ الَّتي تكونُ في الهودَجِ، وهو المَحمولُ الَّذي يُوضَعُ على الدَّوابِّ، مِثلُ القُبَّةِ لِتَركَبَ فيه المرأةُ، وقيل: المرادُ بها المرأةُ عامَّةً، "فيما بينَ يَثرِبَ والحِيَرةِ [أوْ] أكثَرَ، ما يُخافُ على مَطِيَّتِها السَّرَقُ"، ووقَعَتْ هذه الجملةُ في النُّسْخَةِ الْأَحْمَدِيَّةِ لسُننِ التِّرمذيِّ: "أكثَرُ ما تَخافُ على مَطيَّتِها السَّرَقُ"، وهي موهِمةٌ؛ إذ مَعْناها: أنَّ المسافِرةَ تَخافُ أكثرَ شيءٍ مِن السُّرَّاقِ أن يَسرقوا راحِلتَها، ولكنَّ الصَّحيحَ أنَّ المعنى عَكْسُ ذلك، وهو أنَّها عِندَما تَخرُجُ إلى السَّفَرِ وَحْدَها لا تَخْشى أن تُسرَقَ؛ فقد نصَّ العلماءُ على أنَّ النُّسْخَةَ الْأَحْمَدِيَّةَ لسننِ التِّرمذيِّ قَدْ سقَط عنها لَفظَةُ "أَوْ" قَبْلَ "أَكْثَرَ"، ويدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ؛ فَفِيهَا "حَتَّى تَسِيرَ الظَّعِينَةُ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَيَثْرِبَ أَوْ أكْثَرَ، مَا تُخَافُ السَّرَقُ عَلَى ظَعِينَتِهَا"، وَكَلِمَةُ "مَا" فِي قَوْلِهِ: "مَا تُخافُ" نافيةٌ "ويُخافُ" على بِناءِ المجهولِ، "والسَّرَقُ" بِالرَّفْعِ عَلى أنَّه نائِبُ الفاعِلِ وهُو بِفَتْحتينِ بِمَعْنَى السَّرِقَةِ، والمعنى: حتَّى تَسيرَ الظَّعينَةُ فيما بَيْنَ يَثْرِبَ وَالْحِيرَةِ أَوْ فِي أَكْثَرَ مِنْ ذلك لا يُخافُ على راحِلِها السَّرقةُ، ويؤيِّدُ هذا المعنى أيضًا قولُ الصَّحابيِّ: "فأينَ لُصوصُ طَيِّئٍ؟!" كأنَّه لَمَّا فَهِم مِن كلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّها لن تَخافَ مِن السَّرقةِ تعَجَّب مِن ذلك لِوُجودِ لصوصِ قَبيلةِ طيِّئٍ في الطَّريقِ. ويَثرِبُ هي المدينةُ النبويَّة، والحيرةُ: مدينةٌ كانت على شاطئِ الفُراتِ الغربيِّ بالعراقِ، وكانت على ثَلاثةِ أميالٍ (5كم تقريبًا) مِن الكوفةِ على مَوضِعٍ يُقالُ له: النَّجَفُ، وهذا كنايةٌ عمَّا يَعُمُّ مِن أمنٍ بفضلِ الإسلامِ وانتشارِه، والمرادُ بالمطيَّةِ: الدَّوابُّ الَّتي تُركَبُ في السَّفرِ، قال عَدِيٌّ: "فجعَلتُ أقولُ في نَفْسي: فأينَ لُصوصُ طَيِّئٍ؟"، أي: يَتَعجَّبُ عمَّا يُبشِّرُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم من أمانٍ، وقد كانتْ طيِّئٌ تَنهَبُ القوافلَ، وتَقطَعُ عليهم الطَّريقَ، وطيِّئٌ: هي قَبيلةُ عَدِيِّ بنِ حاتمٍ، وبلادُهم ما بينَ العِراقِ والحجازِ، وكانوا يَقطَعون الطَّريقَ على مَن مرَّ عليهِم، ولم يَكُن له عهدٌ معَهم.
وفي الحديثِ: مُعجزةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم.
وفيه: الترغيبُ في الصَّدقةِ، والترهيبُ مِن ترْكِ العَملِ الصَّالحِ.
وفيه: الحرصُ على دَعوةِ الناسِ إلى الإسلامِ .