باب يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب 1
بطاقات دعوية
[عن عامر عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، فذكرته لـ 7/ 16] سعيد بن جبير، فقال: حدثني ابن عباس قال: [خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فـ 7/ 26] قال: "عرضت علي الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة (42)، والنبي يمر معه النفر (وفي رواية: الرهط)، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبى يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير [سد الأفق]، قلت: يا جبريل! هؤلاء أمتي؟ قال: لا، [هذا موسى وقومه]، ولكن انظر إلى الأفق (وفي رواية: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء)، فنظرت، فإذا سواد كثير [قد ملأ الأفق]. قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم [يدخلون الجنة]، لا حساب عليهم ولا عذاب، (وفي رواية: ثم دخل ولم يبين لهم، فأفاض القوم، وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا (وفي أخرى: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء أبناؤنا) الذين ولدوا في الإسلام، فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فخرج، فـ) قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". فقام إليه عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال:
"اللهم اجعله منهم"، ثم قام إليه رجل آخر قال: ادع الله أن يجعلني منهم. (وفي رواية: فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟) قال:
في هذا الحديثِ يُخبِرُ التابعيُّ عامِرُ بنُ شَراحيلَ الشَّعبيُّ أنَّه سَمِع الصَّحابيَّ عِمرانَ بنَ حُصينٍ رضِي اللهُ عنه يقولُ: «لا رُقْيةَ إلَّا مِن عَيْنٍ أو حُمَةٍ»، أي: ليس هناك أنفَعُ وأكثرُ شِفاءً مِن الرُّقية لِمَن أصابَتْه عَينُ الحسدِ، أو لدَغَتْه الهوامُّ، مثلُ العقاربِ والحيَّاتِ؛ فإنَّ الرُّقيةَ بأسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ وبالقرآنِ تَنفَعُ في ذلكَ. وكان سَبَبُ هذا الحديثِ ما رواه مُسلمٌ عن حُصَينِ بن عبدِ الرَّحمنِ، قال: كنتُ عند سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، فقال: أيُّكم رأى الكوكَبَ الذي انقَضَّ البارحةَ؟ قلتُ: أنا، ثمَّ قُلتُ: أمَا إنِّي لم أكن في صلاةٍ، ولكِنِّي لُدِغْتُ، قال: فماذا صنَعْتَ؟ قلت: استرقيتُ، قال: فما حملك على ذلك؟ قلتُ: حديثٌ حَدَّثَناه الشَّعبيُّ، فقال: وما حَدَّثكم الشَّعبيُّ؟ قُلتُ: حَدَّثَنا عن بُرَيدةَ بنِ حُصَيبٍ الأسلميٍّ، أنَّه قال: لا رُقيةَ إلَّا مِن عينٍ أو حُمَةٍ، فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكِنْ حَدَّثَنا ابنُ عَبَّاسٍ، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ... كما سيأتي.
فذكر حُصينُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ قولَ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رضِي اللهُ عنه للتابعيِّ سَعيدِ بن ِجُبَيرٍ مُستَفهِمًا عن صِحَّةِ هذا القَولِ، فأجابه سَعيدٌ بما رواه ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «عُرِضَتْ عليَّ الأممُ»، أي: يومَ القيامةِ، ومَاذا يكونُ حالُهُم، وذلكَ مِن إِعلامِ اللهِ له، وممَّا عُرِضَ عليه أنَّ النَّبيَّ والنَّبيَّينِ يَمُرُّون مَعَهُم الرَّهْطُ، والرَّهْطُ: هُم الجماعةُ مِنَ الثَّلاثةِ إلى العَشرةِ، ويمُرُّ النَّبيُّ ليسَ معَه أحدٌ آمَنَ بهِ في الدُّنيا، حتَّى رُفِعَ له سَوادٌ عَظيمٌ، أي: جُموعٌ كَثيفةٌ مَلأَتِ المكانَ والجِهةَ التي أَتتْ منها، فسأل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنهم وظَنَّهم أمَّتَه، فقيلَ له: هذا موسى عليه السَّلامُ، ومن أسلم وآمَنَ باللهِ معه، ثم قيل للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: انظُرْ إلى الأُفُقِ الظَّاهِرِ من بعيدٍ، فإذا سَوادٌ يَمَلأُ الأُفقَ، ثمَّ قيل له: انظرْ هاهنا وهاهنا في آفاقِ السماءِ ونواحيها، فإذا سَوادٌ قد ملأَ الأُفقَ، قيل له: هذهِ أُمَّتُكَ، والأفُق هو الجِهةُ، والمعنى: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى كَثرةَ أتْباعِهِ يومَ القيامةِ بِالمُقارنةِ إلى أَتباعِ الأنبياءِ الآخرينَ، فالمسلمونَ أَعدادُهُم مَلَأتِ الجِهاتِ مِن كَثرَتِها، وهذا مِن فضْلِ اللهِ على نَبيِّه وعلى أُمَّةِ الإسلامِ، ثمَّ أخبَرَ أنَّه «يَدْخُلُ الجنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعونَ أَلْفًا بِغَيرِ حِسابٍ»، ثُمَّ دخَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجْرتَه بعد أن حَدَّثَهم بهذا القَدْرِ مِن الحديثِ، ولم يُبيِّنْ لهم صِفاتِ هؤلاءِ الذينَ لا يُحاسَبونَ، فأَفاضَ القَوْمُ، أي: جَعَلوا يُكثِرون الكلامَ في تَعْيينِ السَّبعينَ ألفًا ومَن هم؟ بعْدَ حَديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم، وَقالُوا: نَحنُ الذينَ آمنَّا بِاللهِ واتَّبَعْنَا رَسولَهُ، فنحن أَوْلى بأنْ نكونَ مِن السَّبعينَ ألْفًا لهذا السبَّبِ، وقالوا أيضًا: أَوْ أولادُنا الذينَ وُلِدوا في الإِسلامِ؛ فإنَّا وُلِدْنا في الجاهِلِيَّةِ، فَبلَغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يقوله القوم وما يَتحدَّثون به، فَخَرَجَ فقالَ لهم مُوَضِّحًا صفاتِهم: «هُمُ الَّذينَ لا يَسْتَرْقونَ»، أي: لا يَطْلُبونَ الرُّقْيَةَ مِن أَحدٍ مُطلقًا؛ وذَلِكَ لِشِدَّةِ تَوَكُّلِهمْ على اللهِ وإيمانِهِم بأنَّه المَلْجأُ، «وَلا يَتَطَيَّرونَ»، أي: لا يَتشاءَمونَ بالطُّيورِ ونحوِها، كما كانت عادةُ النَّاسِ قبل الإسلامِ، «ولا يَكْتَوُونَ» بالنَّارِ طَلَبًا للشِّفاءِ، ولا يَعتَقِدون أنَّ الشِّفاءَ يكونُ بالكَيِّ كما كان يعتَقِدُ أهلُ الجاهليَّةِ، وقد ورَدَ النَّهيُ عن الاكْتِواءِ. وهُمْ في كلِّ أحوالِهمْ -ومِنها ما سبَقَ ذِكرُهُ- يَتوكَّلونَ على اللهِ حَقَّ تَوكُّلِهِ، فيُفَوِّضون أمورَهم إليه تعالى في ترتيبِ المُسَبَّباتِ على الأسبابِ مع تهيِئَتِها؛ فاستَحَقُّوا بذلك أن يَدْخلوا الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، «فقالَ عُكَاشةُ بنُ مِحْصَن: أمِنْهُم أنا يا رَسولَ اللهِ؟» أي: مِن الذين يَدخُلون الجَنَّةَ بغَير حِسابٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعمْ. وفي روايةٍ أُخرى في الصَّحيحَينِ أنَّه قال للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ادْعُ اللهَ لي يا رسولَ اللهِ أن يجعَلَني منهم. فقال «اللهُمَّ اجعَلْه منهم»، فطَمِع رجلٌ آخرُ في أنْ يكونَ منهم، فقام فقال: «أمِنْهُم أَنا؟ قالَ: سَبَقَكَ بِها عُكَّاشَةُ» وفاز بها لاستِباقِه إليها.
ولعلَّ سَببَ قولِه: «سَبقَكَ بها عُكَّاشَةُ» أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدْ يَكونُ عَلِم بوَحيٍ مِن اللهِ تَعالَى أنَّه يُجابُ دَعوتُه لعُكَّاشَة، ولم يَكُن ذلِك للآخَرِ، أو لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَعلمُ أنَّ السَّائِلَ الآخَرَ ممَّن لا يَستحِقُّ ذلك، فأجابَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلفظٍ مُشترَكٍ وبكَلامٍ يَحتمِلُ أنَّ سَبْقَ عُكَّاشةَ بالسُّؤالِ مَنَعَه مِن إجابتِه، وسَتَر حالَ السَّائِل ولم يَهتِكْ سِتْرَه، وهو مِن بابِ المَعاريضِ الجائزةِ، ولم يُصرِّح له بأنَّه ليس منهم ولا مُستحقًّا لتِلك المنزلةِ، وهذا مِن حُسنِ عِشرتِه وجَميلِ صُحْبتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأيضًا لِيَسُدَّ البابَ؛ إذ لو قالَ للثاني: نعَمْ، لأَوْشكَ أنْ يقومَ ثالثٌ ورابعٌ إلى ما لا نِهايةَ له، ويَسألَه الدَّعوةَ أنْ يكونَ منهم، وليسَ كلُّ الناسِ يَصلُح لذلِك.
قيل: إنَّ حديثَ عُمرانَ بنِ حُصينٍ مُثْبَتٌ مِن قَولِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه أَمَر بالرُّقيةِ، وثَبَتَ عنه أيضًا أنَّه أَمَر بالتَّداوي، ويُجمَعُ بيْن الحديثينِ: أنَّ النَّهيَ في مَن يَعتقِدُ أنَّ الشِّفاءَ يكونُ في ذاتِ الرُّقيةِ أو ذاتِ الأدويةِ، ولم يَجْعَلوه للهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّها أسبابٌ للشِّفاءِ فقطْ.
وقيل: إنَّ ما وَرَد في النَّهيِ عن الرُّقيةِ ما كان بغَيرِ أسماءِ اللهِ عزَّ وجلَّ وصِفاتِه وغيرِ ذلك.
وفي الحَديثِ: بيانُ فضْلِ اللهِ على المُتوكِّلينَ عليه حقَّ التَّوكُّلِ.
وفيه: بيانُ مَكانةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ اللهِ، حيثُ أَطْلعَه على أحوالِ يومِ القيامةِ، وعِظَمِ ما أكرمَ اللهُ تَعالى به نَبيَّهُ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأُمَّتَه.
وفيه: أهمِّيَّةُ العَمَلِ والأخذِ بالأسبابِ مع التوكُّلِ على اللهِ تعالى، وأنَّه لا تنافيَ بين الأمرَينِ.
"سبقك بها عكاشة".