باب يمين رسول الله ﷺ التي كان يحلف بها 3
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو إسحاق الشافعي إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا عبد الله بن رجاء المكي، عن عباد بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن سالم
عن أبيه، قال: كانت أكثر أيمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ومصرف القلوب" (2).
كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُعلِّمًا ومُربِّيًا لأُمَّتِه بالقولِ والفعلِ، وقد كان يُربِّيهم على العقيدةِ الصَّحيحةِ، ومِن ذلك أنَّ اللهَ تعالى هو المُتصرِّفُ في كلِّ شَيءٍ على وَجهِ الحقيقةِ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهما: "كانتْ أكثرُ أيْمانِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ"، وأيمانُ: جمعُ يَمينٍ، وهو الحلِفُ والقسَمُ، والمُرادُ: إنَّ من أكثرِ صِيَغِ الحلِفِ الَّتي كان يُقسِمُ بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قوله: "لا ومُصرِّفَ القُلوبِ"، أي: مَن يملِكُ تحويلَها وتَغييرَها، وهذا من التَّوسُّلِ إلى اللهِ تبارَكَ وتَعالى بأفعالِه، ومنها التَّصريفُ للقُلوبِ، وهو يتضمَّنُ كمالَ المشيئةِ، والحِكمةَ البليغةَ. وهذا الحديثُ بيانٌ لأمرٍ عظيمٍ، وشأنٍ خطيرٍ وكبيرٍ؛ وهو أنَّ اللهَ جَلَّ قدْرُه هو الَّذي يتولَّى قُلوبَ العبادِ بنفْسِه، فيُصرِّفُها كلَّها كقلبٍ واحدٍ كيف يشاءُ، باقتدارٍ تامٍّ، لا يَشْغَلُه قلْبٌ عن قلْبٍ، وأنَّه هو جَلَّ وعلا يتولَّى الأمرَ بنفْسِه، لا يكِلُه لأحدٍ من الملائكةِ، ولم يُطْلِعْ أحدًا على سَرائرِه مِن خَلقِه؛ لمَحضِ رَحمتِه وفَضلِه. وفيه بيانُ أنَّ العبدَ ليس إليه شَيءٌ من أمْرِ سَعادتِه أو شَقاوتِه، بل إنَّ الأمرَ كلَّه للهِ؛ فإنِ اهتدى فبهِدايةِ اللهِ تعالى إيَّاه، وإنْ ضَلَّ فبصَرفِه له بحِكمتِه وعَدلِه وعِلمِه السَّابقِ عَزَّ وجَلَّ؛ فلِعِظَمِ هذا الأمرِ كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ مُفتقِرًا إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ في كلِّ حينٍ بالدُّعاءِ لتَثبيتِ قَلبِه على دِينِه وطاعتِه؛ فكيف بنا نحن؟! فهذا مِن تَعليمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأُمَّتِه أنْ يكونوا مُلازمينَ لمقامِ الخوفِ، مُشفقينَ غيرَ آمنينَ من سلْبِ الدِّينِ واليقينِ والإيمانِ، مِن غير يَأْسٍ من رَحمةِ اللهِ تعالى، بل يجمَعُ العبدُ بين الخوفِ والرَّجاءِ، والرَّغبةِ والرَّهبةِ.