‌‌بيان ذلك

‌‌بيان ذلك

أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا كثير بن قاروندا قال: سألت سالم بن عبد الله عن صلاة أبيه في السفر، وسألناه هل كان يجمع بين شيء من صلاته في سفره؟ فذكر أن صفية بنت أبي عبيد كانت تحته، فكتبت إليه وهو في زراعة له: أني في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من الآخرة، فركب فأسرع السير إليها حتى إذا حانت صلاة الظهر قال له المؤذن: الصلاة يا أبا عبد الرحمن. فلم يلتفت حتى إذا كان بين الصلاتين نزل فقال: أقم. فإذا سلمت فأقم فصلى، ثم ركب حتى إذا غابت الشمس قال له المؤذن: الصلاة. فقال: كفعلك في صلاة الظهر والعصر، ثم سار حتى إذا اشتبكت النجوم نزل، ثم قال للمؤذن: أقم. فإذا سلمت فأقم فصلى، ثم انصرف فالتفت إلينا فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حضر أحدكم الأمر الذي يخاف فوته فليصل هذه الصلاة»

كان عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما حَسَنَ الاتِّباعِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكان حريصًا على تَطبيقِ كلِّ ما يَفعَلُه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحَضَرِ والسَّفَرِ
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التابعيُّ سالمُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنَّ أباهُ عبدَ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه كان يَجْمَعُ بيْنَ المَغْرِبِ والعِشاءِ بالمُزْدلِفةِ، وهي: مَكانٌ بمكَّةَ بيْنَ وادي مُحَسِّرٍ والمَأْزِمَيْنِ، وهو أحدُ المشاعِرِ الَّتي يَنزِلُها الحُجَّاجُ، يَنفِرون إليها بعدَ الوُقوفِ بعَرَفةَ في التَّاسعِ مِن ذي الحجَّةِ، فيُصلُّون بها المغربَ والعِشاءَ قَصْرًا وجَمْعًا
قال سالمٌ: وأَخَّرَ ابنُ عُمَرَ المَغرِبَ، حتَّى دخَلَ وَقتُ العِشاءِ، ولم يكُنْ هذا مِن عادتِه، بلْ كان يُصلِّي الصَّلاةَ لوقتِها، ولكنَّ السَّببَ في ذلك أنَّه كان استُصْرِخَ -والاستِصراخُ: هو الاستِغاثةُ بصَوتٍ مُرتفعٍ- على امرَأَتِه صَفيَّةَ، أي: أُخبِرَ بمَوتِ زَوجتِه صَفيَّةَ بنتِ أبي عُبيدٍ أُختِ المُختارِ الثَّقفيِّ، وكان ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهُما بطَريقِ مكَّةَ خارجَ المدينةِ، فتَعجَّلَ الوُصولَ، فأخْبَرَه سالمٌ بحُضورِ وَقْتِ الصَّلاةِ، فأمَرَه عَبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه باستِكمالِ المَسيرِ، فسار سالمٌ، ثمَّ قال له: الصَّلاةَ، فقال: سِرْ، حتَّى سارَ مِيلَيْنِ أو ثلاثةً، والمِيلُ: كيلومِترٍ ونِصفٌ (1.5 كم) تَقريبًا، ثمَّ نَزَلَ فصلَّى، وجمَع المغربَ والعِشاءَ، ثمَّ قالَ: هكذا رأيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي إذا أعْجَلَه السَّيْرُ، يعني: إذا احتاجَ إلى الإسراعِ في سَيرِه
وقالَ عبدُ اللهِ: رَأَيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا أعْجَلَه السَّيْرُ يُؤَخِّرُ المغربَ، فيُصَلِّيها ثلاثًا -لأنَّ المغربَ لا قَصْرَ فيها- ثمَّ يُسَلِّمُ، ثمَّ قَلَّما يَلْبَثُ -يعني لا يَنتظِرُ إلَّا قليلًا- حتَّى يُقِيمَ العِشاءَ، فيُصَلِّيها رَكعتَينِ قَصْرًا، ثُمَّ يُسلِّمُ، ولا يُسَبِّحُ بعدَ العِشاءِ، أي: لا يُصلِّي تطوُّعًا بعدَ صَلاةِ العِشاءِ، بل يَنامُ حَتَّى يَقُومَ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، فيُصلِّي ما شاء اللهُ له.وللجَمعِ بيْنَ كلِّ صَلاتَينِ طَريقتانِ حسَبَ ما يَتيسَّرُ؛

الأُولى: جمْعُ تَقديمٍ، وهو أنْ يُصلِّيَ العَصْرَ مع الظُّهرِ في وقْتِ الظُّهرِ، والعِشاءَ مع المَغرِبِ في وَقتِ المَغرِبِ. والثَّانيةُ: جَمعُ تَأخيرٍ، وهو أنْ يُصلِّيَ الظُّهرَ مع العَصْرِ في وقْتِ العَصْرِ، ويُصلِّي المغرِبَ مع العِشاءِ في وقْتِ العِشاءِ، وهذا كلُّه مَع قَصْرِ الصَّلَواتِ الرُّباعيَّةِ إلى رَكعتَينِ في السَّفَرِ؛ فتَكونُ الصَّلاةُ جمْعًا وقَصْرًا، وليس في صَلاةِ المَغربِ قَصْرٌ، وصَلاةُ الفَجرِ تُصلَّى مُنفرِدةً، ولا تُجمَعُ مع غَيرِها، وكذا لا جَمْعَ بيْن العَصرِ والمغربِ، ومَن جمَعَ بيْنَ الصَّلاتينِ لَزِمَه ألَّا يُطيلَ في الفصْلِ بيْنَهما، فإنْ طال الفَصلُ بيْنَهما لا يَجمَعُ، ويُصلِّي الأُخرى في وَقتِها
وفي الحديثِ: فضْلُ قِيامِ اللَّيلِ، حيثُ لم يَتركْهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حضرٍ ولا سَفرٍ
وفيه: مَشروعيَّةُ الجمْعِ بيْن المغرِبِ والعِشاءِ في السَّفرِ
وفيه: أنَّ صَلاةَ المغرِبِ لا تُقصَرُ في السَّفرِ
وفيه: المُحافَظةُ على الصَّلاةِ في وَقْتِها إنْ لم يكُنْ هناك عُذرٌ