حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم 21
مستند احمد
قال: وسمعت النعمان بن بشير، يقول: إن أبي بشيرا وهب لي هبة، فقالت أمي: أشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي، فانطلق بي حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أم هذا الغلام سألتني أن أهب له هبة، فوهبتها له، فقالت: أشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتك لأشهدك، فقال: «رويدك، ألك ولد غيره؟» قال: نعم، قال: «كلهم أعطيته كما أعطيته؟» قال: لا قال: «فلا تشهدني إذا، إني لا أشهد على جور، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم»
الشَّريعةُ الإسْلاميَّةُ الغَرَّاءُ هي شَريعةُ العَدْلِ والرَّحمةِ، ومِن صُوَرِ العَدلِ: المُساواةُ بيْن الأولادِ في العَطاءِ والهَدايا؛ فإنَّ تَفضيلَ بَعضِ الأولادِ على بَعضٍ لا يَأْتي إلَّا بالأحْقادِ، وإيغارِ الصُّدورِ، فيَنتُجُ عن ذلك عُقوقُ الأولادِ لِلآباءِ؛ فلا يَبَرُّوهم
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي النُّعْمانُ بنُ بَشيرٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ أُمَّه عَمْرةَ بنتَ رَواحةَ طلَبَتْ مِن أبيه بَشيرِ بنِ سَعدٍ «أنْ يَنحَلَ للنُّعْمانِ وَلَدِها نُحْلًا من مالِه»، والنُّحْلُ هو العَطاءُ، مِنَ العَطيَّةِ والهَديَّةِ، ولكنَّ أباه رفَضَ ذلك، ثمَّ بَدَا له بعْدَ سَنةٍ أو سَنَتينِ أنْ يُلبِّيَ طلَبَ زَوجتِه، ويُعطيَ ابنَه النُّعْمانَ عَطيَّةً هَديَّةً دونَ سائرِ أوْلادِه مِن زَوْجاتِه الأُخْرَياتِ، ولكنَّها قالتْ: «لا واللهِ لا أرْضى حتَّى تَأخُذَ بيَدِ النُّعْمانِ، فتَذهَبَ به إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فتُشهِدَه» على هذا العَطاءِ؛ ليَكونَ أوثَقَ، ففعَل أبوهُ فأخَذَه، وذهَب به إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقَصَّ عليه القِصَّةَ الَّتي حَصَلَت، فسَألَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «هل لكَ معَه ولَدٌ غيرُه؟ قال: نعَم»، وظاهِرُهُ أنَّ له أبناءً غَيرَ أشِقَّاءَ لِلنُّعْمانِ، فقال: فهلْ أعْطَيتَ كلَّ واحدٍ منهم مِثلَ الَّذي أعْطَيتَ النُّعمانَ؟ وهنا استَوضَحَ منه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ العَدلِ بيْن أبنائِه؛ لِيُقِرَّ بشَهادَتِه على العَطيَّةِ أو يَرفُضَها، فأخبَرَه بَشيرٌ أنَّه لم يُعطِ كلَّ أبنائِه مِثلَ ما أعْطاه لولَدِه بَشيرٍ، فرفَضَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَشهَدَ على تلك العَطيَّةِ، وبيَّنَ سبَبَ رَفضِه لِلشَّهادةِ، وأنَّ هذا جَوْرٌ وظُلمٌ، ثمَّ أمَرَه أنْ يُشهِدَ على هذا العَطاءِ أحدًا غيرَه، وهذا تَهْديدٌ، وليس إذْنًا؛ فهذا مِثلُ قَولِه تعالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اعْدِلوا بيْن أوْلادِكم في النِّحَلِ، كما تُحبُّونَ أنْ يَعْدِلوا بيْنَكم في البِرِّ واللُّطفِ»، فكما أنَّ الآباءَ يُحِبُّونَ أنْ يَكونَ أوْلادُهم جَميعًا بارِّينَ بهم، فعليهم أنْ يَعدِلوا بيْنَهم في العَطايا والهِباتِ وغَيرِها؛ حتَّى لا يوَرِّثُوا في نُفوسِهم الكَراهيةَ
وفي الحَديثِ: أنَّ الشَّهادةَ لا تَكونُ إلَّا في الحَقِّ، وفيما يُرْضي اللهَ سُبحانَه وتعالَى
وفيه: إرشادُ الآباءِ لكَيفيَّةِ التَّربيةِ الصَّحيحةِ الَّتي يَنتُجُ عنها أبناءٌ بارُّونَ بآبائِهم
وفيه: مَشروعيَّةُ شَهادةِ الحاكِمِ؛ لأنَّهم إنَّما جاؤوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُشهِدوه على ذلك