حديث صهيب بن سنان من النمر بن قاسط 2
مستند احمد
حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه أيام حنين بشيء لم يكن يفعله قبل ذلك، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن نبيا كان فيمن كان قبلكم أعجبته أمته، فقال: لن يروم هؤلاء شيء، فأوحى الله إليه: أن خيرهم بين إحدى ثلاث: إما أن أسلط [ص:263] عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم، أو الجوع، أو الموت "، قال: " فقالوا: أما القتل أو الجوع، فلا طاقة لنا به، ولكن الموت " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمات في ثلاث سبعون ألفا» ، قال: فقال: " فأنا أقول الآن: اللهم بك أحاول، وبك أصول، وبك أقاتل "
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبشِّرُ أصْحابَه بالفُتُوحاتِ؛ ليُثبِّتَ قُلُوبَهم، ودَليلًا على صِدقِ رِسالتِه
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن بَعضِ ما أنْعَمَ اللهُ سُبحانَه وتَعالَى عَليه وعَلى أُمَّتِه، وعن سَعةِ انتِشارِها في الأرضِ؛ فيَقولُ: «إنَّ اللهَ زَوى ليَ الأرضَ»، أي: قَبَضَها وجَمَعَها مرَّةً واحدةً أمامي، فرَأيْتُ مَشارقَها ومَغاربَها وجَميعَ أقطارِها ونَواحِيها، حتَّى أبصَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما تَملِكُه أُمَّتُه مِن أقْصى المشارِقِ والمغارِبِ منها، «وإنَّ مُلْكَ أُمَّتي سَيَبلُغُ ما زُوِيَ لي» مِنَ الأَرضِ، ثُمَّ هيَ تُفتَحُ لأُمَّتي جُزءًا فجُزءًا حتَّى يَصِلَ مُلكُ أُمَّتي ما زُوِيَ لَه مِنها، «وأُعْطِيتُ الكَنزَيْنِ الأَحمرَ والأَبيضَ»، أي: كَنزَ الذَّهبِ والفضَّةِ، والمُرادُ كَنزَيْ كِسْرى وقَيصَرَ مَلِكَي العراقِ والشَّامِ
ثُمَّ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «سَألتُ رَبِّي ودَعوتُه لأُمَّتي أنْ لا يُهلِكَها بسَنَةٍ عامَّةٍ»، أي: بقَحطٍ يَعُمُّهم، بلْ إنْ وَقَع قَحطٌ فيَكونُ في ناحيةٍ يَسيرةٍ بالنِّسبةِ إلى باقِي بلادِ الإِسلامِ، «وألَّا يُسلِّطَ عليهم عدُوًّا مِن الكافرينَ مِن سِوى أَنفسِهم، فيَستبِيحَ بَيْضتَهم»، أي: يُفْني جَماعتَهم وأَصلَهم، والبَيضةُ أيضًا العزُّ والمُلكُ
ثمَّ أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما قاله له رَبُّ العِزَّةِ، وأنَّه سُبحانه قال: «يا مُحمَّدُ، إِنِّي إذا قضيتُ قضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ»، أي: إذا حَكمتُ حُكمًا مُبرَمًا، فإنَّه لا يُرَدُّ بشَيءٍ بلْ يَنفَذُ لا مَحالةَ، وإنِّي أَعطيتُك لأُمَّتِك ألَّا أُهلِكَهم بسَنَةٍ عامَّة بقَحطٍ وجُوعٍ وشِدَّةٍ، وألَّا أُسلِّطَ عَليهم عدوًّا مِن سِوى أَنفسِهم، يَستبيح بَيضتَهم، وَلو اجتَمعَ عَليهم مَن بأَقطارِها، والمَعنى: فَلا يَستبيحُ عدوٌّ منَ الكُفَّار بَيْضتَهم، ولوِ اجتمعَ على مُحاربتِهم أعداءُ المسْلِمين جميعًا، حتَّى يَكونَ بعضُ المسْلِمين يُهلِكُ بعضًا آخَرَ منهم، ويَسبِي ويَأسِرُ بَعضُهم بَعضًا، فإذا كان مِن المسْلِمين ذلكَ تَفرَّقَت جَماعتُهم واشتَغَلَ بعضُهم ببَعضٍ عن جِهادِ العَدوِّ، فتَقْوى شَوكةُ العدوِّ ويَسْتولى عليهم
وهذا الحديثُ يُبيِّنُ أنَّ للهِ تعالَى في خَلقِه قَضاءينِ: قَضاءً مُبْرَمًا وقَضاءً مُعلَّقًا، أمَّا القضاءُ المعلَّقُ وهو المكتوبُ في الصُّحفِ الَّتي في أيْدي الملائكةِ، فهو عبارةٌ عمَّا قَدَّره في الأزلِ مُعلَّقًا بفِعلٍ، مثلُ: إنْ فُعِلَ الشَّيءُ الفُلانيُّ كان كذا وكذا، وإنْ لم يُفعَلْ فلا يكونُ كذا وكذا، فهذا القضاءُ هو مِن قَبيلِ ما يَتطرَّقُ إليه المحْوُ والإثباتُ، وأمَّا القضاءُ المُبْرَمُ فهو عبارةٌ عمَّا قَدَّره سُبحانَه وتَعالَى في الأزلِ مِن غيرِ أنْ يُعلِّقَه بفِعلٍ، فهو في الوقوعِ نافذٌ غايةَ النَّفاذِ، بحيث لا يَتغيَّرُ بحالٍ، ولا يَتوقَّفُ على المَقْضي عليه، ولا المَقْضي له؛ لأنَّه مِن عِلمِه بما كان وما يكونُ، وخِلافُ مَعلومِه مُستحيلٌ قطْعًا، وهذا مِن قَبيلِ ما لا يَتطرَّقُ إليه المحْوُ والإثباتُ
وفي الحديثِ: بَيانُ عَظَمةِ مَنزِلةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى؛ حيثُ أكرَمَه بإعطاءِ ما سَألَه في أُمَّتِه
وفيه: بَيانُ عَظَمةِ هذا الدِّينِ، وأنَّه يَملَأُ الأرضَ كلَّها