حديث عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم 20
مستند احمد
حدثنا عفان، حدثنا الأسود بن شيبان، قال: حدثنا أبو نوفل بن أبي عقرب، قال: جزع عمرو بن العاص عند الموت جزعا شديدا، فلما رأى ذلك ابنه عبد الله بن عمرو، قال: يا أبا عبد الله، ما هذا الجزع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيك ويستعملك؟ قال: أي بني، قد كان ذلك، وسأخبرك عن ذلك: إني والله ما أدري أحبا كان [ص:320] ذلك، أم تألفا يتألفني، ولكني أشهد على رجلين أنه قد فارق الدنيا وهو يحبهما: ابن سمية، وابن أم عبد، فلما حدثه وضع يده موضع الغلال من ذقنه وقال: اللهم أمرتنا فتركنا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلا مغفرتك، وكانت تلك هجيراه حتى مات
جيلُ الصَّحابةِ خَيرُ القُرونِ، وهم أيضًا خَيرُ هذه الأُمَّةِ، أثنى اللهُ تَعالى عليهم، ومَدَحَهمُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وبَيَّنَ فضلَهم في أحاديثَ كَثيرةٍ، وذلك لِما قاموا به مِن نُصرةِ هذا الدِّينِ والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ تَعالى
ومِن خيرةِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عَمرُو بنُ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه، أسلَم قَبلَ فتحِ مَكَّةَ، ولمَّا أسلَم كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُقَرِّبُه ويُدنيه لمَعرِفتِه وشَجاعَتِه، وكان شَديدَ الحَياءِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَرفَعُ بَصَرَه إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولمَّا قَرُبَ أجَلُه رَضيَ اللهُ عنه جَزِعَ جَزَعًا شَديدًا، أي: خاف خَوفًا شديدًا لِما هو مُقبِلٌ عليه مِن أمرِ الآخِرةِ، فلَمَّا رَأى ذلك ابنُه عَبدُ اللَّهِ بنُ عَمرٍو، أرادَ أن يُسَلِّيَه ويُزيلَ عَنه جَزَعَه، فقال له: يا أبا عَبدِ اللَّهِ، ما هذا الجَزَعُ؟! أي: لماذا هذه الخَوفُ، ولَك مِنَ الفضائِلِ الشَّيءُ الكَثيرُ؛ فقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُدنيك، أي: يُقَرِّبُك مِنه ويَستَعمِلُك؟ أي: يَجعَلُك مِن عُمَّالِه ووُلاتِه وأُمَرائِه الذينَ يَختارُهم لمُهمَّاتِ الأُمورِ، ومِنها بَعثُ الجُيوشِ، فقال عَمرٌو: أي بُنيَّ، يَعني: يا بُنَيَّ، قد كان ذلك، أي: نَعَم، صَحيحٌ قد حَصَلَ ما ذَكَرتَه، ولَكِن دَعني أُخبِرْك عن ذلك: إنِّي واللَّهِ ما أدري أحُبًّا كان ذلك، أم تَألُّفًا يتألَّفُني، أي: أنَّني لا أعلَمُ السَّبَبَ الذي كان يَجعَلُ رَسولَ اللهِ يُدنيني مِنه ويَستَعمِلُني: هَل كان ذلك حُبًّا مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لي أم كان يَعمَلُه مِن بابِ التَّأليفِ لي في الإسلامِ؟ بخِلافِ بَعضِ الصَّحابةِ؛ فقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُحِبُّهم حُبًّا ليس مِن بابِ التَّأليفِ لهم؛ لقُوَّةِ إيمانِهم، ثُمَّ ذَكَرَ عَمرٌو بَعضَ أولَئِكَ الصَّحابةِ، فقال: ولَكِنِّي أشهَدُ على رَجُلَينِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد فارَقَ الدُّنيا، أي: ماتَ، وهو يُحِبُّهما: ابنُ سُمَيَّةَ. وهو عَمَّارُ بنُ ياسِرٍ رَضيَ اللهُ عنهما، وسُمَيَّةُ أُمُّه -واسمُها سُمَيَّةُ بنتُ الخَيَّاطِ، مِن أوائِلِ مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ، رَضيَ اللهُ عنها- وابنُ أُمِّ عَبدٍ، وهو عَبدُ اللَّهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه. نُسِبَ إلى أُمِّه أمِّ عَبدٍ، ثُمَّ وضَعَ عَمرٌو يَدَه مَوضِعَ الغِلالِ مِن ذَقَنِه. والغُلُّ هيَ الحَديدةُ التي تَجمَعُ يَدَ الأسيرِ إلى عُنُقِه، وجَمعُه أغلالٌ، والمُرادُ أنَّه وضعَ يَدَه مَوضِعَ الغُلِّ مِنَ الأسيرِ، وذلك في أعلى الرَّقَبةِ، وأسفلَ الذَّقَنِ، وقال: اللَّهُمَّ أمَرْتَنا فتَرَكْنا، أي: قَصَّرْنا فيما أمَرْتَنا به، ونَهَيتَنا فرَكِبنا، أي: فعَلْنا ما نَهَيتَنا عَنه، وهذا القَولُ مِن عَمرٍو مِن بابِ التَّضَرُّعِ إلى اللَّهِ والافتِقارِ له والانكِسارِ بَينَ يَدَيه، ولا يَسَعُنا إلَّا مَغفِرَتُك، وكانت هذه الكَلِماتُ، أي: كان النُّطقُ بكَلِماتِ التَّضَرُّعِ هِجِّيراه، أي: دَأبَه ودَيدَنَه وعادَتَه حَتَّى ماتَ رَضِيَ اللهُ عنه. وفي رِوايةٍ أنَّه قال: اللهُمَّ إنَّك أمَرتَنا فأضَعْنا، ونَهَيتَنا فرَكِبْنا، فلا بَريءٌ فأعتَذِرَ، ولا عَزيزٌ فأنتَصِرَ، ولَكِنْ لا إلَهَ إلَّا أنتَ! وما زالَ يَقولُها حَتَّى ماتَ
وفي الحَديثِ ما كان عليه عَمرُو بنُ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه مِنَ الخَوفِ مِنَ اللهِ تعالى واعتِرافِه بالتَّقصيرِ في حَقِّ اللهِ تعالى
وفيه مَشروعيَّةُ تَسليةِ المُحتَضَرِ وإزالةِ ما عِندَه مِنَ الخَوفِ بذِكرِ بَعضِ فضائِلِه وأعمالِه الصَّالحةِ
وفيه فضيلةٌ ومَنقَبةٌ لعَمَّارِ بنِ ياسِرٍ وأُمِّه وعَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنهم