صوم عشرة أيام من الشهر 2
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، حدثنا شعبة، قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس، هو الشاعر، يحدث عن عبد الله بن عمرو، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الله بن عمرو، إنك تصوم الدهر، وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين، ونفهت له النفس، لا صام من صام الأبد صوم الدهر، ثلاثة أيام من الشهر صوم الدهر كله»، قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم صوم داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى»
دِينُ الإسلامِ دِينُ الوسَطيَّةِ وشَريعتُه شريعةٌ سَمحةٌ، وقد كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يحِبُّ من العمَلِ أدوَمَه وإنْ قَلَّ، وكان يُعلِّمُ النَّاسَ أنْ يُعْطوا كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه؛ فللهِ عَزَّ وجَلَّ حَقٌّ، وللأهْلِ حَقٌّ، وللجسمِ حَقٌّ؛ فيجِبُ على المُسلمِ أنْ يُراعِيَ حُقوقَ الدُّنيا والآخرةِ
وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما: "قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه بَلَغني أنَّك تقومُ اللَّيلَ، وتصومُ النَّهارَ!"، أي: يكون يومُك كلُّه في العبادةِ؛ صومًا في النَّهارِ ، وصَلاةً طَوالَ اللَّيلِ، "قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، ما أردْتُ بذلك إلَّا الخيرَ"، يعني: أنَّه ما أراد بهذه العِبادةِ إلَّا وجْهَ اللهِ تعالى، لا رِياءً ولا سُمعةً، فقال له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا صامَ مَن صام الأبَدَ"، أي: لم يُكْتَبْ له أجْرُ صومِه إذا ما الْتزَمَ صِيامَ العامِ، أو صِيامَ مُدَّةِ عُمرِه
وفي روايةِ الصَّحيحينِ: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: "وإنَّك إذا فعلْتَ ذلك، هجَمَتِ العينُ، ونفِهَت له النَّفسُ"، أي: فأصابَك التَّعبُ والجُهدُ في العَينِ والنَّفسِ والجسمِ، ثمَّ قال له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ولكنْ أدُلُّك على صَومِ الدَّهرِ"، أي: ما يُعادِلُ ويُساوي في الأجْرِ صِيامَ السَّنةِ كلِّها، وقيل: الدَّهرُ: العُمرُ، "ثلاثةُ أيَّامٍ من الشَّهرِ"؛ فيكونُ قد بيَّنَ المشروعَ من صَومِ الدَّهرِ بعدَ أنْ بيَّنَ منْعَ صَومِ الدَّهرِ، أي: صِيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ من كلِّ شَهرٍ يحصُلُ به صَومُ الدَّهرِ مع كونِه مَشروعًا؛ وذلك أنَّ الحَسنةَ بعشْرِ أمثالِها، فيكونُ صِيامُ اليومِ بعشَرةِ أيَّامٍ والثَّلاثةِ بشَهرٍ، قال: "قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي أُطيقُ أكثَرَ من ذلك"، أي: أتحمَّلُ وأستطيعُ صَيامَ أكثَرَ مِن ذلك، "قال: صُمْ خَمسةَ أيَّامٍ، قلْتُ: إنِّي أُطيقُ أكثَرَ من ذلك، قال: فصُمْ عشْرًا، فقلْتُ: إنِّي أُطيقُ أكثَرَ من ذلك، قال: صُمْ صومَ داودَ عليه السَّلامُ؛ كان يصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا"، وذلك أقصَى ما سمَحَ به النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من الصِّيامِ؛ حتَّى لا تضعُفَ النَّفسُ والجِسمُ عن مُتابعةِ الحُقوقِ الدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ، وحتَّى لا يُصابَ المرْءُ بالمَلَلِ من كثرةِ العِبادةِ، فينقَلِبَ الأمْرُ إلى العَكسِ، ويَترُكَ العِبادةَ كُليَّةً أو يَكْسَلَ عنها، وقد كانتْ سُنَّةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يُصَلِّي في اللَّيلِ وينامُ، ويصومُ ويُفطِرُ، ويَتزوَّجُ النِّساءَ، ويُعْطي كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه
وفي الحديثِ: الأمرُ بالترفُّقِ في العِبادةِ، مع المحافظةِ عليها وعلى الفرائضِ والنوافِل؛ ليراعِيَ المسلمُ حقوقَ غيرِه عليه
وفيه: الزجرُ عن التشديدِ على النَّفْسِ في العِباداتِ بما لا تُطيقُ
وفيه: تفقُّد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأصحابِه في العباداتِ، وترشيدُه لِمَا قد يكونُ فيه تجاوُزٌ