غزوة الترك والحبشة 1
سنن النسائي
لقدِ اشترَك النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مع أصحابِه رَضِي اللهُ عَنهم في حَفْرِ الخندقِ شَمالَ المدينةِ، وكان حفْرُه بمشورةٍ مِن سَلْمانَ الفارسيِّ رضِيَ اللهُ عنه؛ لحِمايتِها مِن الأحزابِ الَّتي جمَعَتْها قُرَيشٌ لِحَربِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وأصحابِه، في شوَّالٍ سنةَ أربَعٍ من الهجرةِ
وفي هذا الحديثِ يقولُ رجلٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "لَمَّا أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بحَفرِ الخندَقِ، عرَضَت"، أي: ظهَرَت، "لهم صَخرةٌ حالَتْ بينَهم وبينَ الحَفْرِ"، أي: أوقَفَتِ الحَفرَ؛ لِصَلابتِها وعِظَمِها، "فقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وأخَذ المِعْوَلَ"، وهو آلةَ الحفرِ كالفأسِ ونَحوِه تكونُ مِن حَديدٍ، "ووضَع رِداءَه ناحيةَ الخندقِ"، أي: نزَعه ووضَعه على جانبٍ منه، "وقال: {تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}"، أي: كَلمةُ النَّصرِ الَّتي كتَبها اللهُ عزَّ وجلَّ لعِبادِه المؤمِنين في الدُّنيا والآخِرَةِ، "{صِدْقًا وَعَدْلًا}"، أي: صِدقًا فيما قال، وعدلًا فيما حَكَم، "{لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}"، أي: ليس أحَدٌ يُعقِّبُ على حُكمِه تعالى، لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، "{وَهُوَ السَّمِيعُ}" لأقوالِ عِبادِه وسِرِّهم ونَجواهم، "{الْعَلِيمُ}"، بأفعالِهم وبكلِّ شَيءٍ
قال: "فنَدَر"، أي: سقَط وهُدِم، "ثُلثُ الحجَرِ، وسَلمانُ الفارسيُّ قائمٌ يَنظُرُ"، أي: مُتعجِّبًا مِن فعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، "فبَرَق مع ضَربةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بَرقةٌ"، أي: أضاء الحجَرُ ولَمَع، "ثمَّ ضرَب الثَّانيةَ"، أي: ضرَب النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الحجرَ بالمِعْوَلِ، "وقال: {تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}"، "فنَدَر الثُّلثُ الآخَرُ"، أي: سقَط وهُدِم الثُّلثُ الثَّاني مِن الصَّخرةِ، "فبرَقَت برقةٌ، فرآها سَلْمانُ، ثمَّ ضرَب الثَّالثةَ، وقال: {تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}"، قال: " فنَدَر الثُّلثُ الباقي"، أي: فهُدِم وكُسِر ما بَقي من الصَّخرةِ، "وخرَج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم"، أي: مِن الخندَقِ، "فأخَذ رِداءَه وجلَس، قال سَلمانُ: يا رسولَ اللهِ، رأيتُك حِينَ ضَرَبتَ"، أي: الصَّخرةَ، "ما تَضرِبُ ضربةً إلَّا كانتْ معها بَرْقةٌ"، أي: لَمَعانٌ ووَميضٌ مِن الضَّوءِ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "يا سَلْمانُ، رأيتَ ذلك؟"، أي: هل رأيتَ ذلك اللَّمعانَ؟ فقال سلمانُ رَضِي اللهُ عَنه: "إي، والَّذي بعَثَك بالحقِّ يا رسولَ اللهِ"، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "فإنِّي حينَ ضرَبتُ الضَّربةَ الأولى رُفِعَتْ لي"، أي: ظهَرَتْ، "مَدائِنُ كِسْرى وما حولَها ومَدائنُ كثيرةٌ"، أي: البلادُ الَّتي تقَعُ تحتَ حُكمِ كِسْرى، و(كِسْرى) لقَبٌ لِمَلِكِ الفُرْسِ، "حتَّى رأيتُها بعَيني"، قال له مَن حضَره مِن أصحابِه رَضِي اللهُ عَنهم: "يا رسولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أن يَفتَحَها علينا، ويُغَنِّمَنا دِيارَهم، ويُخْرِبَ بأيدينا بِلادَهم، فدَعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بذلك"، أي: بأنْ يَفتَحَها عليهم، وقد قيل: إنَّ سَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ رَضِي اللهُ عَنه افتتَحَها سنةَ أربعَ عَشْرةَ، "ثمَّ ضَرَبتُ الضَّربةَ الثَّانيةَ، فرُفِعَتْ لي مدائنُ قَيْصرَ وما حولَها"، أي: البلادُ الَّتي تقَعُ تحتَ حُكمِ قَيصرَ، و(قيصرُ) لقَبُ ملِكِ الرُّومِ، "حتَّى رأيتُها بعَيني"، قال أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "يا رسولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أنْ يَفتَحَها علينا ويُغَنِّمَنا دِيارَهم، ويُخْرِبَ بأيدينا بِلادَهم، فدعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بذلك"، أي: بأن يَفتَحَ عليهم بلادَ الرُّومِ
قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ثمَّ ضرَبتُ الثَّالثةَ، فرُفِعَتْ لي مَدائنُ الحبَشةِ وما حولَها مِن القُرَى"، والحبشةُ: جِنسٌ مِن السُّودانِ، "حتَّى رأيتُها بعَيني"، "قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عند ذلك"، أي: عند ذِكْرِه للحبشَةِ: "دَعُوا الحبَشَةَ ما وَدَعُوكم، واترُكوا التُّرْكَ ما ترَكُوكم"، أي: لا تُقاتِلوهم ما لم يُقاتِلوكم. وقيل: إنَّما النَّهيُ عن قِتالِ الحبشةِ: لأنَّ بلادَ الحبَشةِ وَعْرةٌ، وبينَها وبينَ بلادِ المسلِمين مَفاوِزُ وصِعابٌ؛ فلم يُكلِّفِ المسلِمين بدُخول ديارِهِم؛ لِكَثرةِ التَّعبِ، وأمَّا التُّركُ فبَأْسُهم شَديدٌ، وبلادُهُم باردةٌ، والعربُ- وهم جُندُ الإسلامِ- كانوا مِن البلادِ الحارَّةِ؛ فلم يُكلِّفْهم دُخولَ بلادِهم، وأمَّا إذا دخَل الأحباشُ أو التُّركُ بلادَ الإسلامِ، فلا يُباحُ تَرْكُ قِتالِهم
وفي الحديثِ: علامةٌ مِن علاماتِ صِدقِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم
وفيه: تأييدُ اللهِ تَعالَى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالمبشِّراتِ