كتاب اللقطة
حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة قال غزوت مع زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فوجدت سوطا فقالا لى اطرحه. فقلت لا ولكن إن وجدت صاحبه وإلا استمتعت به فحججت فمررت على المدينة فسألت أبى بن كعب فقال وجدت صرة فيها مائة دينار فأتيت النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال « عرفها حولا ». فعرفتها حولا ثم أتيته فقال « عرفها حولا ». فعرفتها حولا ثم أتيته فقال « عرفها حولا ». فعرفتها حولا ثم أتيته فقلت لم أجد من يعرفها. فقال « احفظ عددها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها ». وقال ولا أدرى أثلاثا قال « عرفها ». أو مرة واحدة.
أي شيء يلتقط ، وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين . وقال عياض : لا يجوز غيره كذا في فتح الباري . وقال النووي : هي بفتح القاف على اللغة المشهورة التي قالها الجمهور ، واللغة الثانية لقطة بإسكانها ، والثالثة لقاط بضم اللام ، والرابعة لقط بفتح اللام والقاف
( إن وجدت صاحبه ) : أي فأعطيه ( وإلا استمتعت به ) : أي انتفعت به ( قال ) : سويد ( فقال ) : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ( عرفها ) : بالتشديد أمر من التعريف وهو أن ينادي في الموضع الذي لقاها فيه وفي الأسواق والشوارع والمساجد ، ويقول : من ضاع له شيء فليطلبه عندي ( فعرفتها حولا ) : أيضا بالتشديد من التعريف وحولا نصب على الظرف ( من يعرفها ) : بالتخفيف من عرف يعرف معرفة وعرفانا . وفي رواية للبخاري : ثم أتيته الرابعة فقال : اعرف عدتها ، وفي رواية البخاري ثم أتيته ثلاثا أي ثلاث مرات ، والمعنى أنه أتى ثلاث مرات ، وليس معناه أنه أتى بعد المرتين الأولين ثلاث مرات وثالثة باعتبار التعريف ورابعة باعتبار مجيئه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله العيني . ( ووعاءها ) : الوعاء بالمد وبكسر الواو وقد تضم وقرأ بها الحسن في قوله قبل وعاء أخيه وقرأ سعيد بن جبير إعاء بقلب الواو المكسورة همزة ، والوعاء ما يجعل فيه الشيء سواء كان من جلد أو خزف أو خشب أو غير ذلك . ( والوكاء ) : بكسر الواو والمد الخيط الذي يشد به الصرة وغيرها ، وزاد في حديث زيد بن خالد العفاص كما سيأتي ( وإلا فاستمتع بها ) : قال الخطابي : فيه دليل على أن له أن يستملكها بعد السنة ويأكلها إن شاء غنيا كان الملتقط لها أو فقيرا . وكان أبي بن كعب من مياسير الأنصار ، ولو كان لا يجوز للغني أن يتملكها بعد تعريف السنة لأشبه أن لا يبيح له الاستمتاع بها إلا بالقدر الذي لا يخرجه عن حد الفقر إلى حد الغنى ، فلما أباح له الاستمتاع بها كلها دل على أن حكم الغني والفقير لا يختلف في ذلك . وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعائشة - رضي الله عنها - إباحة التمليك والاستمتاع بها بعد السنة . وقالت طائفة : إذا عرفها سنة ولم يأت صاحبها تصدق بها ، وروي ذلك عن علي وابن عباس ، وهذا قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وإليه ذهب مالك . ( قال ولا أدرى أثلاثا قال عرفها أو مرة واحدة ) : وفي رواية للبخاري : وإلا فاستمتع بها فاستمتعت بها فلقيته بعد بمكة فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا ، انتهى
والقائل شعبة . والذي قال : لا أدري هو شيخه سلمة بن كهيل ، وقد بينه مسلم من رواية بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل ، قال شعبة : فسمعته بعد عشر سنين يقول : عرفها عاما واحدا . وقد بينه أبو داود الطيالسي في مسنده أيضا ، فقال في آخر الحديث : قال شعبة : فلقيت سلمة بعد ذلك ، فقال : لا أدرى ثلاثة أحوال أو حولا واحدا ، فالمعنى أي قال سلمة بن كهيل لا أدري أقال سويد بن غفلة عرفها ثلاثا أي ثلاثة أحوال أو عرفها مرة واحدة أو حولا واحدا . قال الحافظ : وأغرب ابن بطال فقال الذي شك فيه هو أبي بن كعب والقائل هو سويد بن غفلة انتهى
ولم يصب في ذلك وإن تبعه جماعة منهم المنذري . بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة ، وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة ، وفيه هذه الزيادة أي ثلاثة أحوال أخرجها مسلم . وجمع بعضهم بين حديث أبي هذا وحديث زيد بن خالد الآتي فإنه لم يختلف عليه في الاقتصار على سنة واحدة ، فقال : يحمل حديث أبي بن كعب على مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها ، وحديث زيد على ما لا بد منه أو لاحتياج الأعرابي واستغناء أبي
قال المنذري : لم يقل أحد من أئمة الفتوى إن اللقطة تعرف ثلاثة أعوام إلا شيء جاء عن عمر انتهى . وقد حكاه الماوردي عن شواذ من الفقهاء ، وحكى ابن المنذر عن عمر أربعة أقوال : يعرفها ثلاثة أحوال ، عاما واحدا ، ثلاثة أشهر ، ثلاثة أيام ، ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها ، وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا وهو أربعة أشهر . وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن هذه الزيادة غلط ، قال والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم تثبت واستذكر واستمر على عام واحد ، ولا يؤاخذ إلا بما لم يشك فيها راويه وقال ابن الجوزي : يحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي فأمر أبيا بإعادة التعريف ، كما قال للمسيء صلاته : ارجع فصل فإنك لم تصل ، انتهى
ولا يخفى بعد هذا على مثل أبي مع كونه من فقهاء الصحابة وفضلائهم ، وقد حكى صاحب الهداية من الحنفية رواية عندهم ، أن الأمر في التعريف مفوض لأمر الملتقط فعليه أن يعرفها إلى أن يغلب على ظنه أن صاحبها لا يطلبها بعد ذلك . كذا في الفتح : قال المنذري : وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي مختصرا ومطولا بنحوه . وليس في حديث البخاري ومسلم فعرف عددها ووعاءها ووكاءها ، وفي حديث الترمذي " فإذا جاء طالبها فأخبرك بعددها ووعائها ووكائها فادفعها إليه " . وفي حديث النسائي فإن جاء أحد يخبر بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إياه ، انتهى كلام المنذري
( بمعناه ) : أي بمعنى حديث محمد بن كثير ( قال ) : النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب ( عرفها حولا ) : أي سنة واحدة ( قال ثلاث مرار ) : أي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الكلام لأبي ثلاث مرار ( قال ) : سلمة بن كهيل لما اشتبه فيه بعد إلقائه بمكة ( فلا أدري قال ) : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( له ) : أي لأبي ذلك الكلام وهو عرفها حولا ( في سنة ) : واحدة ثلاث مرار ( أو ) : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذلك الكلام مفرقا ( في ثلاث سنين ) : أي أمره أن يعرفها في ثلاث سنين
( بإسناده ) : أي بإسناد شعبة ( قال عامين أو ثلاثة ) : . وأخرج مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أبي أنيسة ، وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة بن كهيل نحو حديث شعبة ، وفي حديثهم جميعا ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة
قال النووي : في روايات حديث زيد بن خالد عرفها سنة ، وفي حديث أبي بن كعب أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بتعريفها ثلاث سنين ، وفي رواية سنة واحدة ، وفي رواية أن الراوي شك قال : لا أدري قال : حول أو ثلاثة أحوال ، وفي رواية عامين أو ثلاثة . قال القاضي عياض : قيل في الجمع بين الروايات قولان أحدهما أن يطرح الشك والزيادة ، ويكون المراد سنة في رواية الشك وترد الزيادة بمخالفتها باقي الأحاديث . والثاني أنهما قضيتان ، فرواية زيد في التعريف سنة محمولة على أقل ما يجزئ ، ورواية أبي بن كعب في التعريف ثلاث سنين محمول على الورع وزيادة الفضيلة . قال : وقد أجمع العلماء على الاكتفاء بتعريف سنة ، ولم يشترط أحد تعريف ثلاثة أعوام إلا ما روي عن عمر ولعله لم يثبت عنه ، انتهى كلامه ، وتقدم الكلام في ذلك ، والله أعلم . ( فإن جاء صاحبها فعرف عددها إلخ ) : قال الخطابي : فيه دلالة على أنه إذا وصف اللقطة وعرف عددها دفعت إليه من غير تكليف بينة سواها ، وهو مذهب مالك وأحمد بن حنبل . وقال الشافعي إن وقع في نفسه أنه صادق ، وقد عرف الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن دفعها إليه إن شاء ، ولا يجبر على ذلك إلا ببينة ؛ لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها ، وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه
قلت : ظاهر الحديث هذا يوجب دفعها إليه إذا أصاب الصفة ، وهو فائدة قوله : اعرف عفاصها ووكاءها ، فإن صحت هذه اللفظة في رواية حماد وهي قوله ، فعرف عددها فادفعها كان ذلك أمرا لا يجوز خلافه ، وإن لم يصح فالاحتياط مع من لم يرى الرد إلا ببينة ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ويتأول على هذا المذهب قوله : " اعرف عفاصها ووكاءها ، على وجهين : أحدهما : أنه أمره بذلك لئلا يختلط بماله فلا يتميز منه ، والوجه الآخر : لتكون الدعوى فيها معلومة وأن الدعوى المبهمة لا تقبل "
قلت : وأمره بإمساك اللقطة وتعريفها أصل في أبواب من الفقه ، إذا عرضت الشبهة فلم يتبين الحكم فيها ، وإلى هذا ذهب الشافعي في كثير من المسائل مثل أن يطلق أحد نسائه من غير تعيين ، ومات فإن اليمين توقف حتى تبين المطلقة منهن ، أو يصطلحن على شيء في نظائر لها من الأحكام ، انتهى