كتاب صلاة الخوف 5
سنن النسائي
أخبرني عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد، عن الزبيدي، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن عباس قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام الناس معه فكبر وكبروا، ثم ركع وركع أناس منهم، ثم سجد وسجدوا، ثم قام إلى الركعة الثانية، فتأخر الذين سجدوا معه وحرسوا إخوانهم، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وسجدوا والناس كلهم في صلاة يكبرون ولكن يحرس بعضهم بعضا»
أمَرَ اللهُ تعالى بالتَّعاونِ على البِرِّ والتَّقوى، ونَهَى عنِ التعاوُنِ على الإثمِ والعُدوانِ؛ وذلك لتتمَّ مَصالِحُ النَّاسِ على أكْمَلِ وجهٍ، ومِن التعاونِ المشروعِ المزارعةُ بصُورةٍ ليس فيها ظُلمٌ؛ لِمَا يترتَّبُ عليها من مصالِحَ لمالكِ الأرضِ، ومَن يقومُ بزِراعتِها
وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو جَعْفَرٍ الخَطْمِيُّ: "بَعَثني عمِّي أنا وغُلامًا له إلى سَعيدِ بنِ المُسيَّبِ، قال" أبو جَعْفَرٍ: "فقُلنا "له"، أي: لسعيدِ بنِ المُسيَّبِ، "شيءٌ"، أي: أَقْدَمَنا إليكَ شيءٌ، "بَلَغَنا عنك في المُزارعةِ" مِنَ النَّهي عَنِ المُزارعةِ، وهي المُعامَلةُ على الأرضِ ببَعضِ ما يَخْرُجُ منها، ويكونُ البَذْرُ مِنْ مالِكِها، "قال"، أي: سعيدٌ: "كان ابنُ عُمَرَ" وهو ابنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهما، "لا يَرَى بها بأسًا"، أي: إنَّها جائزةٌ ولا حَرَجَ فيها، "حتَّى بلَغَه عن رافعِ بنِ خَديجٍ حديثٌ"، أي: في النَّهي عنها، "فأتاه" ابنُ عُمَرَ لِيَسألَه عن ذلك، فأخَبْرَه رافِعٌ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتَى بَني حارثةَ فرأى زرعًا في أرضِ "ظُهْيرٍ" وهو عَمُّ رافِعِ بنِ خَديجٍ، "فقال" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ما أَحْسَنَ زَرعَ ظُهْيرٍ! قالوا"، أي: النَّاسُ: "ليس" هذا الزَّرْعُ "لظُهْيرٍ، قال" رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أليس أَرْضَ ظُهيرٍ"، أي: كيف لا يكونُ الزَّرعُ لظُهيرٍ والأرضُ أَرْضُه؟! "قالوا: بلى" الأرضُ أَرْضُ ظُهيرٍ، "ولكِنَّه زَرْعُ فُلانٍ" لِرَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، "قال" رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "فخُذوا زَرْعَكُم، ورُدُّوا عليه"، أي: على فُلانٍ الزَّارِعِ، "النَّفَقةَ"، وهي ما دُفِعَ مِنَ التَّكاليفِ مِنَ الكِراءِ وغيرِه، "قال رافِعٌ: فأخَذْنا زَرْعَنا، ورَدَدْنا إليه"، أي: إلى الزَّارِعِ "النَّفقةَ" التي أَنْفَقَها على الأرضِ، "قال سعيدٌ: أَفْقِرْ أخاكَ"، أي: أَعِرْه وأَعْطِه أَرْضَك ليَزْرَعَها، أو" أَكْرِهِ بالدَّراهِمِ"، أي: الإجارةُ تكونُ بالمالِ وليس بجزءٍ مِنَ الزَّرعِ
وقد ورَدَ حديثُ رافعٍ في النَّهيِ عن كِراءِ الأرضِ بالمُخابرةِ والمزارعةِ بألفاظٍ مُخْتلِفةٍ، وبتأمَّلِ هذه الألفاظِ والرِّواياتِ وجَمْعِ طُرُقَها، واعْتِبارِ بَعْضَها ببعضٍ، وحَمْلِ مُجْمَلِها على مُفسَّرِها، ومُطْلَقَها على مُقيَّدِها- فإنَّها تَدُلُّ على أنَّ الذي نَهى عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِه كان أمرًا بيِّنَ الفَسادِ، وهي المزارعةُ الظَّالِمةُ الجائرةُ؛ فإنَّ رافعًا نَفْسَه فسَّرَها في رِوايةٍ فقال: "كنَّا نُكْري الأرضَ على أنَّ لنا هذه، ولهم هذه، فربَّما أَخْرَجتْ هذه، ولم تُخْرِجْ هذه"، وقال أيضًا: "ولم يَكُنْ لهم كِراءٌ إلَّا هذا؛ فلذلك زَجَرَ عنه، وأمَّا بشيءٍ معلومٍ مضمونٍ، فلا بأسَ"
وأيضًا: فإنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم صالَحَ أَهْلَ خَيْبرَ على أنْ يَزْرعوا الأرضَ ولهمُ النِّصْفُ وللنَّبيِّ النِّصْفُ، وظَلَّ العملُ به إلى موتِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبه عَمِلَ الخلفاءُ الرَّاشِدون مِنْ بَعْدِه؛ فتَبيَّن أنَّ النَّهيَ ليس عامًّا، وإنَّما النَّهْيُ عن شيءٍ مُعيَّنٍ مِنَ الظُّلمِ في المعاملةِ
وأيضًا كَانَ طَاوُسٌ يُزَارِعُ، ويَرْوِي عَن ابنِ عبَّاسٍ تَفْسيرَ حديثِ رافعٍ هذا، فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لَمْ يَنْهَ عنها، ولكنْ قال: "لأنْ يَمْنَحَ أحَدُكُم أَرْضَه خيرٌ مِنْ أنْ يأخُذَ عليها خَراجًا مَعلومًا"، وقد أَخْبَرَ سعيدُ بنُ المُسيِّبِ أنَّ الكِراءَ بالدِّرْهَمِ والدِّينارِ لا شيءَ فيها