كتاب قسم الفيء 9

سنن النسائي

كتاب قسم الفيء 9

أخبرنا عمرو بن يحيى بن الحارث قال: حدثنا محبوب يعني ابن موسى قال: أنبأنا أبو إسحاق هو الفزاري، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أن فاطمة أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم من صدقته، ومما ترك من خمس خيبر، قال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نورث»

الأنْبياءُ والمُرسَلونَ لهم بَعضُ الخَصائصِ الَّتي ميَّزَهمُ اللهُ بها عن بَقيَّةِ أُمَمِهم، ومِن هذا: أنَّهم لا يُورَثونَ، وإنْ تَرَكوا مالًا فهو صَدَقةٌ في سَبيلِ اللهِ؛ لأنَّهم إنَّما يُوَرِّثونَ مَن وَراءَهم مِن ذُرِّيَّةٍ أو أتْباعٍ العِلمَ والدَّعْوةَ
وفي هذا الحَديثِ تَحْكي أمُّ المؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ فاطِمةَ رَضيَ اللهُ عنها بِنتَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أرسَلَتْ إلى أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه بعْدَما تَولَّى الخلافةَ، تَسألُه عن مِيراثِها مِن أبيها رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مِمَّا أعْطاه اللهُ مِن مالِ الكُفَّارِ مِن غَيرِ حَربٍ، وَلا جِهادٍ بالمَدينةِ، نحْوَ أرضِ يَهودِ بَني النَّضيرِ حِينَ أجْلاهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في السَّنةِ الثَّالثةِ مِن الهِجْرةِ، وقيلَ: في رَبيعٍ الأوَّلِ منَ السَّنةِ الرَّابعةِ مِن الهِجْرةِ، وكانوا يَسكُنونَ جَنوبَ المَدينةِ المُنوَّرةِ، وأرضُ فَدَكَ مِمَّا صالَحَ أهلَها على نِصفِ أرْضِها، وفَدَكُ: قَرْيةٌ بخَيْبرَ، وقيلَ: بناحيةِ الحِجازِ، فيها عَينٌ ونَخلٌ، وما بَقيَ مِن خُمُسِ خَيْبرَ، وهي قَرْيةٌ كانت يَسكُنُها اليَهودُ، وكانت ذاتَ حُصونٍ ومَزارِعَ، وتَبعُدُ نحوَ 170 كم تَقْريبًا مِن المَدينةِ إلى جِهةِ الشَّامِ، وقد غَزاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلمون، وفتَحَها اللهُ لهم في السَّنةِ السَّابعةِ منَ الهِجْرةِ
فرفَضَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه ذلك، وذكَرَ لها أنَّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَ أنَّ الأنْبياءَ لا يُورَثُون، وما تَرَكوه مِن مالٍ فهو صَدَقةٌ على الفُقَراءِ والمَساكِينِ، ويُوزِّعُها وَليُّ الأمْرِ مِن بَعدِهم، وليس لوَرَثَتِه إلَّا ما يَكْفيهم مِن قُوتٍ وطَعامٍ، ويُقيمُ حَياتَهم. قال أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه: وإنِّي واللهِ لا أُغيِّرُ شَيئًا مِن صَدَقةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَن حالِها الَّتي كانت عليها في عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولأَعمَلَنَّ فيها بما عَمِلَ به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فغَضِبَت فاطِمةُ رَضيَ اللهُ عنها على أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه وهجَرَتْه، ولم تُكلِّمْه حتَّى توُفِّيَتْ، وكان هَجْرَ انْقِباضٍ عن لِقاءِ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه، لا القَطيعةَ، والهُجْرانَ المُحرَّمَ، ولعلَّها تَمادَت في الهَجرِ طِيلةَ هذه المدَّةِ لاشْتِغالِها بشُؤونِها، ثمَّ بمَرضِها رَضيَ اللهُ عنها، وقدْ عاشَتْ بعْدَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ستَّةَ أشهُرٍ، فلمَّا توُفِّيَت دَفَنَها زَوجُها عَلِيُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه لَيلًا؛ قيلَ: كان هذا بوَصيَّةٍ منها رَضيَ اللهُ عنها؛ لزيادةِ التَّستُّرِ، ولم يُعلِمْ عَليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه بها أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّ ذلك لا يَخْفى عنه، وليس فيه ما يدُلُّ على أنَّ الصِّدِّيقَ رَضيَ اللهُ عنه لم يَعلَمْ بمَوتِها ولا صَلَّى عليها، وصلَّى عليها عَلِيٌّ رَضيَ اللهُ عنه، وكان النَّاسُ يَحتَرِمونَه حَياةَ فاطِمةَ رَضيَ اللهُ عنها إكْرامًا لها، فلمَّا تُوفِّيَتْ رَأى عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه في وُجوهِ النَّاسِ تَغيُّرًا لا يُعجِبُه، حيث قَصَروا عن ذلك الاحْتِرامِ الَّذي كان يَراه طيلةَ حَياةِ فاطِمةَ رَضيَ اللهُ عنها؛ لاستِمرارِه على عدَمِ مُبايَعتِه أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكانوا يَعذِرونَه أيَّامَ حَياةِ فاطِمةَ رَضيَ اللهُ عنها عن تأخُّرِه عن ذلك باشْتِغالِه بها، وتَسْليةِ خاطِرِها، فالْتمَسَ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه مُصالَحةَ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه ومُبايَعتَه، ولم يكُنْ بايَعَ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه تلك الأشهُرَ السِّتَّةَ، ولعَلَّ ذلك إمَّا لاشْتِغالِه بفاطِمةَ رَضيَ اللهُ عنها، أو اكْتِفاءً بمَن بايَعَه، فأرسَلَ عَليٌّ إلى أبي بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضيَ اللهُ عنهما أنِ ائْتِنا، ولا يَأْتِنا أحَدٌ معَكَ؛ وذلك حتَّى لا يَأتِيَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه معه؛ وذلك لمَا عَرَفوه مِن قُوَّةِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، وصَلابَتِه في القَولِ والفِعلِ، فربَّما تَصدُرُ منه مُعاتَبةٌ تُفْضي إلى خِلافِ ما قَصَدوه مِن المُصافاةِ
فقالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه لأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه لمَّا بلَغَه ذلك: لا واللهِ، لا تَدخُلُ عليهم وَحدَكَ، وكأنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه خاف أنْ يَترُكوا مِن تَعْظيمِ أبي بَكرٍ وتَوْقيرِه ما يجِبُ له، ولكنَّ أبا بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه قال له: وما تظُنُّ أنْ يَفعَلَ بي عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه ومَن معَه؟! واللهِ لآتيَنَّهم، فدخَلَ عليهم أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فتَشهَّدَ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه، فقال: إنَّا قد عرَفْنا فَضلَكَ، وما أعْطاكَ اللهُ، ولم نَحسُدْكَ على الخِلافةِ، ولكِنَّكَ استَبدَدْتَ علينا بالأمْرِ، ولم تُشاوِرْنا في أمْرِ الخِلافةِ، وكُنَّا نَرى -لقَرابَتِنا مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- نَصيبًا مِنَ المُشاوَرةِ، ولم يزَلْ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه يَذكُرُ له ذلك حتَّى فاضَت عَيْنا أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِن الرِّقَّةِ
وهنا رَدَّ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فحلَفَ أنَّ قَرابةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحَبُّ إليه مِن أنْ يَصِلَ رَحِمَه، وأنَّ ما وقَعَ مِن التَّنازُعِ في الأمْوالِ الَّتي ترَكَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لمْ يُقصِّرْ فيها، ولم يَترُكْ أمْرًا رَأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصنَعُه فيها إلَّا صَنَعَه
فاتَّفَقوا على البَيْعةِ بعدَ الزَّوالِ -بعدَ صَلاةِ الظُّهرِ-، فلمَّا صَلَّى أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه الظُّهرَ عَلا المِنبَرَ، فتشَهَّدَ، وذكَرَ شأْنَ عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، وتخَلُّفَه عنِ البَيْعةِ، وأنَّه قبِلَ عُذْرَه بالَّذي اعتَذَرَ إليه، ثمَّ استَغفَرَ
ثمَّ تشَهَّدَ عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه، فعَظَّمَ حَقَّ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وذكَرَ فَضلَه وسابِقتَه في الإسْلامِ، ثمَّ مَضى إلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فبايَعَه، وحدَّثَ أنَّه لم يَحمِلْه على الَّذي صنَعَ مِن التَّأخُّرِ حسَدٌ، ولا إنْكارٌ للَّذي فَضَّلَه اللهُ به، ولكنْ كانوا يَرَون أنَّ لهم في أمْرِ الخِلافةِ نَصيبًا، فاستَبَدَّ عليهم، فغَضِبوا في أنفُسِهم
ففَرِحَ بذلك المُسلِمونَ، وقالوا: أصَبْتَ. وكانَ وُدُّ المُسلِمينَ إلى عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه قَريبًا حينَ راجَعَ الأمرَ بالمَعْروفِ، وهو الدُّخولُ فيما دخَلَ النَّاسُ فيه مِنَ المُبايَعةِ على خِلافةِ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه
وفي الحَديثِ: أنَّ أمْوالَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتَصرَّفُ فيها خَليفتُه في مَصالِحِ المُسلِمينَ
وفيه: أنَّه يَلزَمُ العالِمَ أنْ يُظهِرَ ما عندَه مِن العِلمِ وَقْتَ الحاجةِ، ولا يَكْتُمَه، ولا يَخافَ في الحقِّ لَوْمةَ لائمٍ
وفيه: فَضيلةُ أبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، وحُسنُ تَدْبيرِهما للأُمورِ