مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه1842
مسند احمد
حدثنا عفان، حدثنا همام، قال: أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك، " أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث خاله حراما أخا أم سليم في سبعين إلى بني عامر، فلما قدموا، قال لهم خالي: أتقدمكم، فإن أمنوني حتى أبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا كنتم مني قريبا، قال: فتقدم فأمنوه، فبينما هو يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أومئوا إلى رجل فطعنه فأنفذه، فقال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم، إلا رجلا أعرج منهم كان قد صعد الجبل " - قال همام: فأراه قد ذكر مع الأعرج آخر معه على الجبل - قال: وحدثنا أنس، أن: " جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنهم قد لقوا ربهم، فرضي عنهم وأرضاهم "، قال أنس: كانوا يقرءون: " أن بلغوا قومنا أنا قد (1) لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا "، قال: " ثم نسخ بعد ذلك، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثين صباحا، على رعل، وذكوان، وبني لحيان، وعصية الذين عصوا الله ورسوله، أو عصوا الرحمن " (2)
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَثَ سَبعينَ رجُلًا مِن القُرَّاءِ إلى بَني عامرِ بنِ صَعْصعةَ مِن أهْلِ نَجْدٍ؛ لِيَدْعُوهم إلى الإسلامِ.
وقولُه: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَقْوامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ» خَطأٌ، والصَّوابُ -كما في الصَّحيحينِ- أنَّهم مَبعوثٌ إليهم، والمَبْعوثون هم رِجالٌ مِن الأنصارِ. وكان حَرامُ بنُ مِلْحانَ رَضيَ اللهُ عنه -خالُ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه- أميرًا عليهم.
فلَمَّا جاؤوا إلى بَني عامرٍ قالَ لهم حَرامُ بنُ مِلْحانَ: «أتَقَدَّمُكُمْ؛ فإنْ أَمَّنُونِي حتَّى أُبَلِّغَهُمْ عن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإلَّا كُنْتُم مِنِّي قَرِيبًا»، فلمَّا تَقدَّمَ حَرامُ بنُ مِلْحانَ رَضيَ اللهُ عنه أمَّنوه، فبيْنما هو يُكلِّمُهم عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ أوْمَؤُوا إلى رَجُلٍ منهم -والإيماءُ: هو الإشارةُ باليدِ أو العينِ أو غيرِهما- فطَعَنَه برُمحِه طَعنةً شَديدةً حتى نَفَذَ مِن النَّاحيةِ الأُخرى، فقال حَرامٌ: اللهُ أَكبَر! فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، حيثُ نال الشَّهادةَ.
ثمَّ أخبَرَ أنسٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم مالُوا علَى بَقِيَّةِ أصحابِه، فقَتَلوا السَّبعينَ جَميعًا، إلَّا رَجُلًا أَعْرَجَ -هو كَعبُ بنُ زيدٍ الأنصاريُّ- صَعِدَ الجَبَلَ؛ هَرَبًا مِن القتْلِ، وقولُه: «فأُراهُ آخَرَ معه»، أي: نجَا معه رجلٌ آخرُ، قيل هو: عمرُو بنُ أُميَّةَ الضَّمْرِيُّ.
فأَخْبَرَ جِبريلُ عليه السَّلامُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمَوتِهم، وأنَّهُم قَدْ لَقُوا رَبَّهُم، فَرَضيَ عنهم وأرْضاهُم، قال: فَكُنَّا نَقْرَأُ -يعني في القرآنِ الكريمِ-: (أنْ بَلِّغُوا قَومَنا أنْ قَدْ لَقِينا رَبَّنا، فَرَضِيَ عَنَّا وأَرْضانا)، ثم نُسِخَ لَفظُه مِن التِّلاوةِ بعْدَ ذلك، وقد حَزِن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حُزنًا شَديدًا، فظَلَّ يَدْعو على رِعْلٍ وَذَكْوانَ وَبَنِي لَحْيانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ أربعينَ صباحًا في القُنوتِ في صَلاةِ الصُّبحِ، كما في الصَّحيحينِ؛ لأنَّهم عَصَوُا اللهَ تعالَى ورَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وغَدَروا بأصحابِه الكرامِ.
وقدْ ورَدَ عند أبي داودَ، عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: «قنَتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَهرًا مُتتابِعًا، في الظُّهرِ والعَصرِ، والمَغرِبِ والعِشاءِ، وصَلاةِ الصُّبحِ، في دُبُرِ كلِّ صَلاةٍ، إذا قال: سَمِع اللهُ لِمَن حَمِدَه مِن الرَّكعةِ الآخرةِ، يَدْعو على أحياءٍ مِن بَني سُلَيمٍ؛ على رِعْلٍ، وذَكْوانَ، وعُصَيَّةَ، ويُؤَمِّنُ مَن خَلْفَه».
ثمَّ تَرَك الدُّعاءَ عليهم لَمَّا نزَل قولُ اللهِ تعالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، كما ورَدَ في الصَّحيحينِ.
وفي الحديثِ: الدُّعاءُ على الظَّالمينَ والغادِرين ومَن يُؤذِي المُسلِمينَ.
وفيه: أنَّ الطَّاعةَ التامَّةَ للهِ تعالَى ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَببٌ في النَّجاةِ عندَ اللهِ سُبحانَه والفوزِ برِضوانِه.
وفيه: القُنوتُ في النَّوازِلِ والمُلِمَّاتِ.
وفيه: حِرصُ الصَّحابةِ على الشَّهادةِ، وفَرَحُهم لنَيلِها.
وفيه: دَليلٌ على أنَّ أهلَ الحَقِّ قد يَنالُ منهم المُبطِلون، ولا يكونُ ذلك دالًّا على فَسادِ ما عليه أهلُ الحَقِّ، بلْ كَرامةً لهم، وشَقاءً لأهلِ الباطِلِ.