مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه253
مسند احمد
حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد، عن أنس، أن رجلا كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان قرأ: البقرة، وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ: البقرة، وآل عمران، جد فينا - يعني عظم -، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يملي عليه غفورا رحيما، فيكتب عليما حكيما، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: " اكتب كذا وكذا، اكتب كيف شئت " ويملي عليه عليما حكيما، فيقول: أكتب سميعا بصيرا؟ فيقول: " اكتب (1) كيف شئت ". فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، فلحق بالمشركين، وقال: أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب كيفما (2) شئت، فمات ذلك الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الأرض لم تقبله " وقال أنس: فحدثني أبو طلحة: " أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل، فوجده منبوذا، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟ قالوا: قد دفناه مرارا فلم تقبله الأرض " (1)
تَكفَّلَ اللهُ سُبحانَه وتعالَى بحِفظِ دِينِه ونَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما تَكفَّلَ بحِفظِ كِتابِه منَ التَّحريفِ والتَّغْييرِ، حتَّى وإنْ تعمَّدَ بعضُ الكَفَرةِ والمُنافِقينَ ذلك.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي أنَسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَجلًا نَصْرانيًّا مِن بَني النَّجَّارِ -كما في رِوايةِ مُسلمٍ- أسْلَمَ في عهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحَفِظ بَعضَ القُرْآنِ، حتَّى قَرَأ سُورَتَيِ البَقرةِ وآلِ عِمْرانَ، فكان يَكتُبُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الوَحْيَ وغَيرَه ممَّا يُريدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كِتابَتَه، ولكنَّه ارتَدَّ، فعادَ نَصْرانيًّا كما كان، ولمُسلمٍ: «فانطلَقَ هاربًا حتَّى لَحِقَ بأهلِ الكِتابِ فرَفَعوه»، فكان الرَّجلُ يَقولُ بعْدَ ارْتِدادِه عنِ الإسْلامِ: ما يَدْري مُحمَّدٌ إلَّا ما كَتبْتُ له، وفي هذا إشارةٌ إلى سُوءِ ظنِّه باللهِ سُبحانَه، وبرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه كان يَكتُبُ الوَحيَ بغَيرِ ما يُمْليهِ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويظُنُّ أنَّه بذلك هو الَّذي يُحدِّدُ الوَحْيَ بما يَكتُبُه، ولم يَعلَمْ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَحفَظُ الوَحيَ، ويُحفِّظُه لغَيرِه مِن الصَّحابةِ.
وفي رِوايةِ أحمَدَ: فكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُمْلي عليه: (غَفورًا رَحيمًا)، فيَكتُبُ (عَليمًا حَكيمًا)، فيَقولُ له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اكتُبْ كذا وكذا، اكتُبْ كيف شِئتَ»، ويُمْلي عليه: (عَليمًا حَكيمًا)، فيقولُ: أكتُبُ (سَميعًا بَصيرًا)؟ فيَقولُ: «اكتُبْ كيف شِئتَ».
فماتَ هذا الرَّجلُ وهو على رِدَّتِه تلك، فدَفَنَه أهْلُه في قَبرِه، فأصبَحَ وقدْ لفَظَتْه الأرضُ، أي: طرَحَتْه ورَمَتْه مِن داخِلِ القَبرِ إلى خارِجِه؛ لتَقومَ الحُجَّةُ على مَن رَآهُ، وليَدُلَّ على صِدقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وليَكونَ عِبرةً للنَّاظِرينَ، فظنَّ أهْلُ الكِتابِ أنَّ هذا الرَّمْيَ مِن فِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه لَمَّا هرَبَ منهم، ولم يَرْضَ دِينَهم، نبَشُوا -أي: فَتَحوا- قَبْرَه، فألقَوْه خارجَه، فأعادَ أهلُ الكِتابِ دَفْنَه، فحَفَروا له فأعْمَقوا، أي: أبْعَدوا في باطنِ الأرضِ، ورَغْمَ ذلك لَفَظَتْه الأرضُ مرَّةً أُخْرى، فأصبَحَ مَرميًّا خارجَ قَبْرِه، فظنَّ أهلُ الكِتابِ مرَّةً أُخْرى أنَّ هذا مِن فِعلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه، نَبَشوا قَبْرَه لَمَّا هَرَب منهم، فألْقَوْه خارجَ القَبرِ، فحَفَر له أهْلُه مرَّةً ثالثةً، فأعْمَقوا له في الأرضِ قَدْرَ ما يَسْتَطيعون، فأصبَحَ وقدْ لفَظَتْه الأرضُ، فعَلِموا أنَّه لَيس مِن فِعلِ النَّاسِ، بلْ مِن ربِّ النَّاسِ، فألقَوْه، وفي رِوايةِ مُسلمٍ: «فتَرَكوه مَنْبوذًا» مَرميًّا على وجْهِ الأرضِ، فكان عِبرةً لكلِّ مُنافقٍ مُرتَدٍّ.
وفي الحَديثِ: النَّهيُ عنِ الكَذِبِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وسُوءُ عاقِبةِ مَن يَكذِبُ عليه.
وفيه: ذِكرُ آيةٍ مِن آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وهي أنَّ هذا الرَّجلَ لَمَّا كذَبَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وادَّعى خِلافَ ما كان يُمْليه عليه، وكانت دَعْواه على السِّرِّ الَّذي لولا تَقريبُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له بأنْ جعَلَه كاتبًا للوَحيِ؛ لم يَقدِرْ على تلك الدَّعْوى، فأظهَرَ اللهُ تعالَى فيه تلك الآيةَ، وهي إخراجُه مِن قَبْرِه ولَفْظُ الأرضِ له؛ وذلك أنَّه لَمَّا أظهَرَ سرَّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كانت عُقوبتُه مِن جنسِ ذَنْبِه، فأظهَرَتِ الأرضُ مِن سَوْءتِه ما تَوارى به مِن كلِّ أحدٍ.
وفيه: بَيانُ أنَّ الهِدايةَ بيَدِ اللهِ تعالى؛ فالمَهْديُّ مَن هَداهُ اللهُ.