مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه77
حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه وصبي في الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. قال: فخفضهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ولاء الله عز وجل لا يلقي حبيبه في النار " (1)
مِن أسماءِ اللهِ تعالى الرَّحمَنُ، ومِنه اشتُقَّت صِفةُ الرَّحمةِ، وقد وصَف اللَّهُ سُبحانَه نَفسَه بالرَّحمةِ في مَواطِنَ كَثيرةٍ، ومَظاهِرُ رَحمةِ اللهِ بالعِبادِ ظاهِرةٌ جَليَّةٌ في كُلِّ شَيءٍ، وقد قال سُبحانَه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، والخَلقُ يَتَراحَمونَ بَينَهم بجُزءٍ يَسيرٍ مِن رَحمةِ اللهِ، وقد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللَّهَ تعالى أرحَمُ بعِبادِه مِنَ الأُمِّ بولَدِها؛ يَقولُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: مَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نَفرٍ مِن أصحابِه.
والنَّفرُ: الجَماعةُ مِنَ الرِّجالِ ما بَينَ الثَّلاثةِ إلى العَشرةِ، وصَبيٌّ في الطَّريقِ، أي: كان هذا الصَّبيُّ في الطَّريقِ الذي مَرَّ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، فلَمَّا رَأت أُمُّه، أي: أُمُّ الصَّبيِّ، القَومَ، أي: الصَّحابةَ، خَشِيَت على ولَدِها أن يوطَأَ. الوَطءُ هو: الدَّوسُ بالقدَمِ، أي: خافت على ولَدِها أن يَدوسَه القَومُ بأقدامِهم وهم غَيرُ مُنتَبِهينَ له، فأقبَلَت تَسعى، أي: جاءَتِ الأُمُّ تَجري مُسرِعةً لتُدرِكَ ولَدَها، وتَقولَ لهم: ابني ابني! أي: احذَروا أن تَدوسوا ابني بأقدامِكُم! وسَعَت فأخَذَته، أي: حتَّى جاءَت وأخَذَتِ ابنَها.
فقال القَومُ، أي: الصَّحابةُ: يا رَسولَ اللهِ، ما كانت هذه لتُلقيَ ولَدَها في النَّارِ، أي: إنَّ حُبَّ هذه المَرأةِ ورَحمَتَها بابنِها يَجعَلُها تَحرِصُ على ألَّا تُلقيَه في النَّارِ، فكَيف يُلقي أرحَمُ الرَّاحِمينَ عِبادَه في النَّارِ؟ فخَفَّضَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: سَكَّنَهم وهَوَّنَ عليهمُ الأمرَ، وكَأنَّه عَظُمَ عليهمُ الإشكالُ، فخَفَّف عليهم أمرَهم بالجَوابِ فقال لهم: لا واللَّهِ ما يُلقي، أي: ما يَطرَحُ حَبيبَه في النَّارِ، أي: مَن يُحِبُّه اللهُ، وهو مَن أحَبَّ اللَّهَ؛ فإنَّه تعالى إنَّما يُحِبُّ مَن أحَبَّه. والتَّعبيرُ بحَبيبِه يُخرِجُ الكافِرَ، وكَذا مَن شاءَ إدخالَه مِمَّن لم يَتُبْ مِن مُرتَكِبي الكَبائِرِ.
وفي الحَديثِ بَيانُ شَفقةِ ورَحمةِ الأُمِّ بولَدِها.
وفيه بَيانُ سَعةِ رَحمةِ اللهِ تعالى.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّعليمِ بالفِعلِ والواقِعِ .