مسند جابر بن عبد الله رضي الله عنه 580
مسند احمد
حدثنا حجين، ويونس، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر، أنه قال: رمي يوم الأحزاب سعد بن معاذ، فقطعوا أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فانتفخت يده، فحسمه، فانتفخت يده، فحسمه أخرى، فانتفخت يده، فنزفه، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا تخرج نفسي حتى تقر عيني من بني قريظة، فاستمسك عرقه، فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه، فحكم أن تقتل رجالهم، وتستحيا نساؤهم وذراريهم، ليستعين بهم المسلمون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أصبت حكم الله فيهم» ، وكانوا أربع مائة، فلما فرغ من قتلهم، انفتق عرقه، فمات
الصَّحابةُ خَيرُ القُرونِ؛ فهمُ الذينَ ناصَروا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ووقَفوا مَعَه، وكانوا يُقدِّمونَ أنفُسَهم على نَفسِه؛
ولهذا أثنى اللهُ تَعالى عليهم وأثنى عليهمُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولبَعضِهم مَناقِبُ ومَزايا يَتَمَيَّزُ بها عَن غَيرِه خَصَّه بها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومِن ذلك الصَّحابيُّ الجَليلُ سَعدُ بنُ مُعاذٍ رَضيَ اللهُ عنه سَيِّدُ الأوسِ، وكان مِن أعظَمِ النَّاسِ بَرَكةً على قَومِه؛ فإنَّه لمَّا أسلَمَ قال لقَومِه: كَلامُ رِجالِكُم ونِسائِكُم عليَّ حَرامٌ حَتَّى تُسلِموا، فأسلَموا، فكان مِن أعظَمِ النَّاسِ بَرَكةً في الإسلامِ. وقد شَهدَ مَعَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم غَزوةَ بَدرٍ، وغَزوةَ أُحُدٍ، وغَزوةَ الخَندَقِ، وفي هذا الحَديثِ تُبَيِّنُ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها جانِبًا مِن جَوانِبِ شَجاعةِ ومَواقِفِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ في غَزوةِ الخَندَقِ، فتَقولُ: خَرَجتُ يَومَ الخَندَقِ، أي: في غَزوةِ الخَندَقِ، أقفُو أي: أتَتَبَّعُ، أثَرَ النَّاسِ، وأمشي وراءَهم، فسَمِعتُ وئيدَ الأرضِ مِن ورائي، والوئيدُ: صَوتُ شِدَّةِ الوطءِ على الأرضِ يُسمَعُ كالدَّويِّ مِن بُعدٍ، فالتَفَتُّ، فإذا أنا بسَعدِ بنِ مُعاذٍ ومَعَه ابنُ أخيه الحارِثُ بنُ أوسٍ يَحمِلُ مِجَنَّه، أي: التُّرسَ الذي يَتَّقي به المُقاتِلُ في المَعرَكةِ، فجَلَستُ إلى الأرضِ، فمَرَّ سَعدٌ وعليه دِرعٌ، وهو ما يَلبَسُه المُقاتِلُ مِنَ الحَديدِ، يُقالُ له: الزَّرديَّةُ، يَستُرُ الرَّقَبةَ والصَّدرَ، قد خَرَجَت مِنها أطرافُه، أي: يَداه ورِجْلاه، فأنا أتَخَوَّفُ على أطرافِ سَعدٍ، وكان مِن أعظَمِ النَّاسِ وأطوَلِهم، فمَرَّ سَعدٌ وهو يَرتَجِزُ. والرَّجَزُ: بَحرٌ مِن بُحورِ الشِّعرِ مَعروفٌ، ويَقولُ
لَبِّثْ قَليلًا يُدرِكِ الهَيجا حَمَلْ *** ما أحسَنَ المَوتَ إذا حانَ الأجَلْ
والهَيْجا: الحَربُ. ومَعنى البَيتِ: اُمكُثْ قَليلًا فسَوف يُدرِكُ الحَربَ حَمَلُ بنُ بَدرٍ، وهو رَجُلٌ شُجاعٌ كانوا يُقدِّمونَه في الحَربِ، وليس هناكَ أحسَنُ مِنَ المَوتِ إذا حانَ أجَلُ الشَّخصِ؛ فعَلى الإنسانِ أن يَكونَ شُجاعًا مِقدامًا لا يَهابُ الحَربَ، ولا يَخافُ مِنَ المَوتِ؛ فإنَّ المَوتَ إذا حانَ فليس هناكَ أحسَنُ مِنه
تَقولُ عائِشةُ: فقُمتُ فاقتَحَمتُ حَديقةً، وهيَ كُلُّ ما أحاطَ به البناءُ مِنَ البَساتينِ وغَيرِها، فإذا فيها نَفرٌ مِنَ المُسلمينَ فيهم عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، فقال عُمَرُ: ويحَكِ! ما جاءَ بكِ؟! لَعَمري واللَّهِ إنَّكِ لجَريئةٌ! ما يُؤَمِّنُك أن يَكونَ تَحوُّزُ أو بَلاءٌ، أي: حَربٌ أو أسرٌ، خاف عليها عُمَرُ مِن إقدامِها في مِثلِ هذا المَوطِنِ، قالت: فما زالَ يَلومُني حَتَّى تَمَنَّيتُ أنَّ الأرضَ قدِ انشَقَّت فدَخَلتُ فيها! وفيهم رَجُلٌ عليه نَصيفةٌ له، أي: خِمارٌ قد غَطَّى وجهَه به، فرَفعَ الرَّجُلُ النَّصيفَ عَن وجهِه، فإذا طَلحةُ بنُ عُبَيدِ اللَّهِ، فقال: ويحَكَ يا عُمَرُ! إنَّك قد أكثَرتَ مُنذُ اليَومِ، وأينَ الفِرارُ إلَّا إلى اللهِ؟ قالت: ورَمى سَعدًا رَجُلٌ مِنَ المُشرِكينَ يُقالُ له: ابنُ العَرِقةِ -واسمُه حِبَّانُ- بسَهمٍ، وقال: خُذها وأنا ابنُ العَرقةِ، فأصابَ أكحَلَه، وهو عِرقٌ في وسَطِ الذِّراعِ يَكثُرُ فصدُه، فقَطَعَها، فقال سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه: اللهُمَّ لا تُمِتْني حَتَّى تُقِرَّ عَيني مِن قُرَيظةَ، أي: يَهودِ بَني قُرَيظةَ، وكانوا حُلَفاءَه ومواليَه في الجاهليَّةِ، وقد نَقَضَ بَنو قُرَيظةَ العَهدَ الذي كان بَينَهم وبَينَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ووقَفوا مَعَ قُرَيشٍ في غَزوةِ الخَندَقِ، فبَرَأ كَلمُه، أي: جُرحُه، وبَعَثَ اللهُ الرِّيحَ على المُشرِكينَ، فكَفى اللهُ المُؤمِنينَ القِتالَ، أي: لَم يَحتاجوا إلى مُنازَلَتِهم، بَل صَرفهمُ القَويُّ العَزيزُ بحَولِه وقوَّتِه، ولم تَرجِعْ قُرَيشٌ بَعدَها إلى حَربِ المُسلمينَ، وكان اللَّهُ قَويًّا عَزيزًا، فلَحِقَ أبو سُفيانَ بتِهامةَ، ولَحِقَ عُيَينةُ بنُ حِصنٍ ومَن مَعَه بنَجدٍ، ورَجَعَت بَنو قُرَيظةَ فتَحَصَّنوا بصياصيهم، أي: بحُصونِهم. وكُلُّ شَيءٍ امتُنِعَ به وتُحُصِّن به فهو صِيصةٌ، فرَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المَدينةِ وأمَرَ بقُبَّةٍ مَن أدَمٍ، أي: جِلدٍ، فضُرِبَت، أي: وضِعَت على سَعدٍ في المَسجِدِ، ووُضِعَ السِّلاحُ. وهو كِنايةٌ عَن تَوقُّفِ المَعرَكةِ والقِتالِ، فجاءَ جِبريلُ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال: أوقَدَ وضَعتَ السِّلاحَ؟! فواللهِ ما وضَعَتِ المَلائِكةُ السِّلاحَ! وذلك لأنَّ المَلائِكةَ قاتَلَت مَعَ المُسلمينَ في غَزوةِ الأحزابِ، اخرُجْ إلى بَني قُرَيظةَ فقاتِلْهم؛ لأنَّهم نَقَضوا العَهدَ، فأمر رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بالرَّحيلِ، أي: السَّفرِ، ولَبِسَ لأْمَتَه، أي: الدِّرعَ. وقيلَ: السِّلاحُ. ولأْمَةُ الحَربِ: أداتُه، فخَرَجَ فمَرَّ على بَني غَنمٍ، وكانوا جيرانَ المَسجِدِ، فقال: مَن مَرَّ بكُم؟ قالوا: مَرَّ بنا دِحيةُ الكَلبيُّ، وكان دِحيةُ الكَلبيُّ تُشبِهُ لحيَتُه وسِنُّه ووَجْهُه جِبريلَ عليه السَّلامُ، فأتاهم رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، أي: بَني قُرَيظةَ، فحاصَرَهم خَمسًا وعِشرينَ يَومًا، فلَمَّا اشتَدَّ حِصارُهم واشتَدَّ البَلاءُ عليهم، قيلَ لَهم: انزِلوا على حُكمِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فاستَشاروا أبا لُبابةَ؛ لأنَّه كان مِن حُلَفائِهم، فأشارَ إليهم: أنَّه الذَّبحُ، أي: أنَّ رَسولَ اللهِ سَيَحكُمُ عليكُم بالقَتلِ إذا نَزَلتُم على حُكمِه. وقد نَدِمَ أبو لَبابةَ على ذلك. فقالوا: نَنزِلُ على حُكمِ سَعدِ بنِ مُعاذٍ؛ لأنَّه حَليفُهم، وظَنُّوا أنَّه سيَحكُمُ فيهم بحُكمٍ يَكونُ فيهم مَصلَحةٌ لَهم، فنَزَلوا على حُكمِ سَعدٍ، فبَعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى سَعدٍ؛ لأنَّه كان ما زالَ جَريحًا، فحُمِلَ على حِمارٍ، وعليه إكافٌ، وهو ما يُشَدُّ على ظَهرِ الحِمارِ كالسَّرجِ للفرَسِ، مِن ليفٍ. وحَفَّ بسَعدٍ قَومُه، أي: الأوسُ، فجَعَلوا يَقولونَ: يا أبا عَمرٍو -وهيَ كُنيةُ سَعدٍ-، حُلَفاؤُك ومواليك وأهلُ النِّكايةِ ومَن عَلِمتَ، أي: فأحسِنْ إليهم في الحُكمِ، وسَعدٌ لا يَرجِعُ إلى قَومِه قَولًا، أي: لا يُصغي إلى ما يَقولونَ له، حَتَّى إذا دَنا مِن ذَراريِّهم، أي: أبنائِهم ونِسائِهم، التَفتَ سَعدٌ إلى قَومِه، فقال: قد آنَ -أي: حانَ- لسَعدٍ ألَّا يُباليَ في اللهِ لَومةَ لائِمٍ، فلما طَلَعَ على رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قوموا إلى سَيِّدِكُم فأنزِلوه، أي: مِن فوقِ الحِمارِ. قال عُمَرُ: سَيِّدُنا اللَّهُ؛ وذلك لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لمَّا جاءَه قَومٌ وقالوا له: أنتَ سَيِّدُنا، قال لَهم: السَّيِّدُ اللَّهُ. وهذا لَعَلَّه الذي حَمَلَ عُمَرَ على قَولِ: السَّيِّدُ اللَّهُ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أنزِلوه. فأنزَلوه، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم لسَعدٍ: احكُمْ فيهم. فقال سَعدٌ رَضيَ اللهُ عنه: فإنِّي أحكُمُ فيهم أن تُقتَلَ مُقاتِلَتُهم، أي: البالغونَ الذينَ مِن شَأنِهم أن يُقاتِلوا، وتُسبَى ذَراريُّهم، أي: يُؤخَذُ النِّساءُ والصِّبيانُ سَبيًا، فيُجعَلونَ أرِقَّاءَ، ويوزَّعونَ على الغانمين المُسلمينَ. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: لقد حَكَمتَ فيهم بحُكمِ اللهِ ورَسولِه! أي: صادَفتَ الحُكمَ الذي يُريدُه اللهُ ورَسولُه، ثُمَّ دَعا اللَّهَ سَعدٌ، فقال: اللهُمَّ إن كُنتَ أبقَيتَ على نَبيِّك صلَّى الله عليه وسلَّم مِن حَربِ قُرَيشٍ شَيئًا فأبقِني لَها، وإن كُنتَ قَطَعتَ بَينَه وبَينَهم فاقبِضْني إليك، فانفجَرَ كَلمُه، أي: انبَعَثَ ونَزَف جُرحُه، وكان قد بَرَأ مِنه، حَتَّى ما بَقيَ مِنه إلَّا مِثلُ الحِمِّصِ، أي: أنَّه بَرَأ مَن جُرحِه ولَم يَبقَ من جُرحِه إلَّا شَيءٌ قَليلٌ مِثلَ حَبَّةِ الحِمِّصِ، ولَكِنَّه انفجَرَ بَعدَ دُعائِه هذا، قالت عائِشةُ: فرَجَعَ رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ورَجَعَ سَعدٌ إلى بَيتِه الذي ضَرَبَ عليه رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فحَضَره رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأبو بَكرٍ وعُمَرُ، قالت عائِشةُ: فوالذي نَفسي بيَدِه إنِّي لأعرِفُ بُكاءَ أبي بَكرٍ مِن بُكاءِ عُمَرَ وأنا في حُجرَتي، أي: غُرفتي، وهيَ مُلاصِقةٌ للمَسجِدِ، وكانوا أي: الصَّحابةُ كما قال اللهُ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. قال عَلقَمةُ أحَدُ التَّابعينَ: أيْ أُمَّهْ -يُخاطِبُ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها- فكَيف كان رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يَصنَعُ؟ أي: في البُكاءِ، هَل له صَوتٌ؟ قالت عائِشةُ: كان عَيناه لا تَدمَعُ على أحَدٍ، أي: مَعَ صَوتٍ، وإلَّا فقدَ بَكى على ابنِه إبراهيمَ، ولَكِنَّه إذا وجَدَ -أي: حَزِنَ- إنَّما هو آخِذٌ بلحيَتِه
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ خُروجِ النِّساءِ في الجِهادِ
وفيه شَجاعةُ سَعدِ بنِ مُعاذٍ رَضيَ اللهُ عنه
وفيه مَشروعيَّةُ الإنشادِ وقتَ الحَربِ
وفيه استِجابةُ اللَّهِ لدُعاءِ سَعدٍ
وفيه بَيانُ عَظيمِ فَضْلِ اللَّهِ تَعالى على المُؤمِنينَ في غَزوةِ الأحزابِ؛ حَيثُ نَصَرَهم وهَزَمَ الأحزابَ
وفيه مَشروعيَّةُ عَمَلِ خَيمةٍ في المَسجِدِ للمَريضِ
وفيه أنَّ المَلائِكةَ قاتَلَت مَعَ المُسلمينَ يَومَ الأحزابِ
وفيه أنَّ لُبسَ أدَواتِ القِتالِ لا يُنافي التَّوكُّلَ؛ فقد لَبسَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأْمَتَه
وفيه شِدَّةُ ما وقَعَ مِنَ الحِصارِ على بَني قُرَيظةَ
وفيه مَشروعيَّةُ التَّحكيمِ
وفيه بَيانُ ما كان عليه سَعدٌ مِنَ القوةِ في دينِ اللهِ
وفيه مَشروعيَّةُ إطلاقِ السَّيِّدِ على الخَيِّرِ الفاضِلِ
وفيه مَشروعيَّةُ إكرامِ أهلِ الفضلِ في مَجلِسِ الإمامِ الأعظَمِ
وفيه مَشروعيَّةُ قيامِ المرؤوسِ للرَّئيسِ الفاضِلِ والإمامِ العادِلِ والمُتَعَلِّمِ للعالِمِ
وفيه تَوفيقُ اللهِ لسَعدٍ؛ حَيثُ حَكَمَ في بَني قُرَيظةَ بحُكمِ اللهِ
وفيه مَشروعيَّةُ البُكاءِ على المَيِّتِ