مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما230
مسند احمد
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألم أحدث أنك تقوم الليل؟ أو: أنت (1) الذي تقول: لأقومن الليل ولأصومن النهار؟ " قال: أحسبه، قال: نعم، يا رسول الله، قد قلت ذلك، قال: " فقم ونم، وصم وأفطر، وصم من كل شهر ثلاثة أيام، ولك (2) مثل صيام الدهر ". قلت: يا رسول الله، إني أطيق أكثر من ذلك؟ قال: " فصم يوما وأفطر يومين ". قلت: إني أطيق أفضل من ذلك؟ قال: " فصم يوما وأفطر يوما، وهو أعدل الصيام، وهو صيام داود "، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أفضل من ذلك " (3)
الإسْلامُ دِينُ الوَسَطيَّةِ والسَّماحةِ في كلِّ الأُمورِ، وقد أمَرَنا اللهُ ورسولُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَقْواهُ على قَدْرِ الاستِطاعةِ دونَ تَكلُّفٍ أو مَشقَّةٍ.
وفي هذا يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنهما: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "يا عبدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو، في كم تَقرَأُ القُرآنَ؟" في كم مِن الأيامِ تَختِمُ القُرآنَ؟ فقال عبدُ اللهِ: "في يَوْمي ولَيْلَتي" أيْ: في يومٍ واحدٍ نَهارِه ولَيْلِه، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ارقُدْ وصَلِّ، وصَلِّ وارقُدْ، واقْرَأْه في كلِّ شَهرٍ"، نصَحَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَأخُذَ بالتيْسيرِ في قراءةِ القُرآنِ حتى يَختِمَه في شَهرٍ، فيُعطيَ فُسحةً لنَفْسِه في النوْمِ والراحةِ، قال عبدُ اللهِ: "فما زِلْتُ أُناقِصُه ويُناقِصُني"، يَطلُبُ منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التقْليلَ في أيامِ القِراءةِ، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَزيدُ له فيها، "إلى أنْ قال: اقْرَأْه في كلِّ سَبْعِ ليالٍ"، لا تَختِمِ القُرآنَ في أقلَّ من سَبعةِ أيامٍ. ثم قال عبدُ اللهِ رضِيَ اللهُ عنه: "إنِّي أصومُ ولا أُفطِرُ؟" يَسرُدُ صومَ النهارِ دونَ أنْ يُفطِرَ يومًا، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "صُمْ وأفِطْر، وصُمْ ثلاثةَ أيامٍ من كلِّ شَهرٍ"، اكْتَفِ من كلِّ شَهرٍ بثلاثةِ أيامٍ فقطْ، وتُفطِرُ باقيَ الشهرِ، "فما زِلْتُ أُناقِصُه ويُناقِصُني"، يَستَزيدُ منَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيامَ الصيامِ، ويُقَلِّلُ منه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تلك الأيامَ، "حتى قال: صُمْ أَحَبَّ الصيامِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، صيامَ داوُدَ"، أفضَلُ الصيامِ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ صيامُ نَبيِّ اللهِ داوُدَ عليه السلامُ، "صُمْ يومًا وأفْطِرْ يومًا"، وإنَّما صارَتْ هذه الطَّريقةُ أحَبَّ إلى اللهِ مِن أجْلِ الأخْذِ بالرِّفقِ على النُّفوسِ الَّتي يُخشَى منها السَّآمةُ والمَلَلُ الَّذي هو سببٌ إلى تركِ العِبادةِ، "فقال عبدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو: لأَنْ أكونَ قَبِلْتُ رُخْصةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحَبُّ إليَّ من أنْ يكونَ لي حُمْرَ النَّعَمِ"، ومَعْناه: أنَّه كَبِرَ وعَجَزَ عنِ المُحافَظةِ على ما التَزَمَه ووظَّفَه على نَفْسِه عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فشَقَّ عليه فِعْلُه، ولا يُمكِنُه تَرْكُهُ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: "يا عبدَ اللهِ، لا تكُنْ بمَثَلِ فُلانٍ، كان يقومُ الليلَ فترَكَ قيامَ الليلِ" متَّفَقٌ عليه، وخصَّ الإبلَ الحُمْرَ بالذِّكرِ لكَوْنِها أفضَلَ الأمْوالِ عندَ العَرَبِ التي كان يَفرَحُ بها صاحبُها أشدَّ الفَرَحِ، وأكثَرَ من فَرَحِه بأيِّ أمرٍ آخَرَ.
وفي الحديثِ: إرشادٌ نَبويٌّ للتوسُّطِ والاقتِصادِ في العِبادةِ، وبَيانُ أنَّ سُنَّتَهُ هي عَدَمُ التَّشدُّدِ.
. وفيه: يَنبَغي الدوامُ على ما صارَ عادةً منَ الخَيرِ ولا يُفَرَّطُ فيه.