مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه 23
حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أخبرنا محمد بن سوقة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر
أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية (2) ، فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم، فقال: " استوصوا بأصحابي خيرا، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليبتدئ بالشهادة قبل أن يسألها، فمن أراد منكم بحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون أحدكم بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن " (1)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كثِيرًا ما يَجمَعُ جِماعَ المواعِظِ وجوامِعَ الوَصايا، ولا جَرَمَ؛ فقد أُوتِيَ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم جوامِعَ الكَلِمِ
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أُوصِيكم بأَصْحابي"، أي: أَعطوهم حقُوقَهم وأنزِلوهم منزلَتَهم، وقدِّروهم، ولا تُهِينوهم ولا تَسُبُّوهم، "ثمَّ الَّذين يلُونَهم"، أي: وأُوصِيكم أيضًا بالَّذين يأتون مِن بَعدِهم وهم أبناؤُهم وأتباعُهم مِن التَّابعين،
"ثمَّ الَّذين يَلُونَهم"، أي: وأُوصِيكم أيضًا بالجِيلِ الثَّالثِ الَّذين يأتون مِن بَعدِهم وهم أتْباعُ التَّابعين، "ثمَّ يَفْشُو الكذِبُ"، أي: ثمَّ يأتي زمانٌ بعدَ هذا الجيلِ ينتشِرُ فيه الكذِبُ ويَكثُرُ؛ كأنَّه أراد ذَهابَ الخيْرِ وانتشارَ الشَّرِّ، "حتَّى يَحلِفَ الرَّجلُ ولا يُستَحلَفَ"، أي: ويَصِلُ الأمْرُ مِن الشَّرِّ في هذا الزَّمانِ أنْ يُكثِرَ الرَّجلُ الحلِفَ ولَم يُطلَبْ منه أنْ يحلِفَ؛ وذلك لفِسْقِه وفُجورِه،
"ويَشْهَدَ الشَّاهِدُ ولا يُستَشهَدَ"، أي: ويَصِلُ أيضًا الشَّرُّ في هذا الزَّمانِ أنْ يشهَدَ الرَّجلُ شهادَةَ الزُّورِ ولَم تُطلَبْ منه، إنَّما يَشهَدُها فِسْقًا وفُجورًا.
ثمَّ قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "ألَا" وهي أداةٌ للتَّنبيهِ ولفْتِ انتِباهِ السَّامِعِ،
"لا يَخلُوَنَّ رجلٌ بامرأَةٍ إلَّا كان ثالِثَهما الشَّيطانُ"، أي: لا ينفرِدُ رجلٌ بامرأَةٍ أجنبيَّةٍ إلَّا كان معَهما الشَّيطانُ، فاحذَروا ذلك الأمْرَ فإنَّه قد يَسوقُكم إلى الزِّنى،
"عليكم بالجماعَةِ"، أي: الزَمُوا جماعَةَ المسلِمين، ولا تَحيدوا عنها،
"وإيَّاكم والفُرْقَةَ"، أي: احْذَروا التَّفرُّقَ والتَّشرذُمَ والاختِلافَ فيما بينَكم؛ فالفُرْقةُ شَرٌّ،
"فإنَّ الشَّيطانَ مع الواحِدِ، وهو مِن الاثنَينِ أبعَدُ"، أي: ينفرِدُ الشَّيطانُ بالَّذين يُفارِقون الجماعَةَ ويَكونون فُرادى مُتفرِّقين، ويكونُ تأثِيرُه عليهم أشَدَّ، ووسوسَتُه عليهم أقوى، أمَّا الجماعَةُ فهو منهم أبعَدُ، ولا يستطِيعُ أنْ يؤثِّرَ فيهم كما يؤثِّرُ على الفُرادى البَعِيدين عن الجماعَةِ،
"مَن أراد بُحْبوحَةَ الجنَّةِ فليلْزَمِ الجماعةَ"، أي: مَن أراد أنْ يَدخُلَ الجنَّةَ ويكونَ في وسَطِ الجنَّةِ ويَظفَرَ بنعِيمِها فَلْيتمَسَّكْ بجماعَةِ المسلِمين ولا يبتعِدْ عنها ولا يخرُجْ مِن مُحيطِها، والبُحْبوحَةُ هي الوسَطُ، فبُحْبوحَةُ الدَّارِ وسَطُها وبُحْبوحَةُ الجنَّةِ وسَطُها،
"مَن سرَّتْه حسنَتُه وساءَتْه سيِّئتُه فذلكم المؤمِنُ"، أي: ومِن علاماتِ الإيمانِ إذا أذنَبَ العبْدُ أنْ يَسوءَه ذلك الذَّنبُ،
ويظلَّ نادِمًا يلومُ نفسَه على ارتِكابِه ذلك الذَّنبَ،
وإذا فعَل قُرْبةً للهِ عزَّ وجلَّ يظَلُّ مَسرورًا بتوفِيقِ اللهِ له، وشاكِرًا للهِ على تثبيتِه وتوفِيقِه وهدايَتِه.