باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه 1
بطاقات دعوية
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بذراريهم ونعمهم ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ عشرة آلاف ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده قال فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما شيئا قال فالتفت (1) عن يمينه فقال يا معشر الأنصار فقالوا لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك قال ثم التفت عن يساره فقال يا معشر الأنصار قالوا لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك قال وهو على بغلة بيضاء فنزل فقال أنا عبد الله ورسوله فانهزم المشركون وأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم كثيرة فقسم في المهاجرين والطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا فقالت الأنصار إذا كانت الشدة فنحن ندعى ويعطى (2) الغنائم غيرنا فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال يا معشر الأنصار ما حديث بلغني عنكم فسكتوا فقال يا معشر الأنصار أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون بمحمد تحوزونه إلى بيوتكم قالوا بلى يا رسول الله رضينا قال فقال لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لأخذت شعب الأنصار قال هشام - يعني ابن زيد بن أنس بن مالك - فقلت يا أبا حمزة أنت شاهد ذاك قال وأين أغيب عنه. (م 3/ 106 - 107)
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَريصًا على أنْ يَدخُلَ النَّاسُ جَميعُهم في دِينِ اللهِ، وكان يُعامِلُ النَّاسَ بما يَرى فيه مَصلحتَهم، فما كان يُصلِحُه المالُ أعطاهُ، وما كان يُصلِحُه قُرْبُه منه قرَّبَه منه، إلى غيرِ ذلك.
وفي هذا الحَديثِ يَحكي أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ ناسًا مِنَ الأنصارِ قالُوا لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حينَ أفاءَ اللهُ عليه مِنْ أموالِ هَوازِنَ بعْدَ غَزوةِ حُنَينٍ في السَّنةِ الثَّامِنةِ مِنَ الهِجرةِ -وهَوازِنُ هي قَبيلةٌ مِن قَبائِلِ العَرَبِ- فشَرَعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُعطي رِجالًا مِن قُرَيشٍ المِئةَ مِنَ الإبِلِ، يَتألَّفُهم بذلك؛ لِأنَّهم سادةٌ في أقوامِهم، فلَمَّا رأى الأنصارُ -وهُم أهلُ المَدينةِ- ما فَعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كأنَّهم غاروا مِن ذلك أو حَزِنوا في أنْفُسِهم؛ لِأنَّهم رَأوْا في أنْفُسِهم أنَّهم أحَقُّ بهذا المالِ، فقالوا: يَغفِرُ اللهُ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. فكَأنَّهم رأوْا ذلك خَطأً منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَستَحِقُّ أنْ يَغفِرَه اللهُ له، أو قالوا ذلك على سَبيلِ إظهارِ شِدَّةِ مَحَبَّتِهم له، حتَّى إنَّهم لا يَستَطيعون أنْ يَقولوا: إنَّه وَقَعَ في الخَطأِ صَراحةً، وعلَّلوا قَولَهم هذا بأنَّه يُعطي قَومَه قُريْشًا ويَترُكُ الأنصارَ فلا يُعطِيهم، وإنَّ سُيوفَ الأنصارِ ما زالتْ بها آثارٌ مِن دِماءِ قُرَيشٍ في الحُروبِ التي دارتْ بيْنهم لِيُسْلِموا، وكأنَّهم يُريدون منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُعطيَهم كما أعطى قُرَيشًا، وكأنَّ الذين قالوا هذا حَزِنوا واستَشْعَروا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَدأ يَميلُ إلى أهْلِه وعَشيرَتِه مِن قُرَيشٍ، ويُفضِّلُهم بالعَطاءِ، فعَلِم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما قالوا، قيلَ: أخبَرَه سَعدُ بنُ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنه، فأرسَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الأنصارِ، فجَمَعَهم في خَيْمةٍ مِن أدَمٍ، وهو الجِلدُ، ولم يَدْعُ معهم أحَدًا غَيرَهم، فاقتَصَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليهم فقطْ، فلَمَّا اجتَمَعوا جاءَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فسَأَلَهم: ما الخبَرُ الذي بَلَغَني عنكم؟ يَستَفهِمُ منهم عمَّا قالوه، فقال له فُقَهاؤُهم -وهُم أصحابُ الفَهْمِ-: أمَّا ذَوو آرائِنا -وهُمُ العُقَلاءُ وذَوو الرَّأْيِ- يا رَسولَ اللهِ، فلم يَقولوا شَيئًا، وأمَّا أُناسٌ مِنَّا صِغارُ السِّنِّ، وصِغارُ العُقولِ، فقالوا: يَغفِرُ اللهُ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ يُعطي قُرَيشًا ويَترُكُ الأنصارَ، وسُيُوفُنا تَقطُرُ مِن دِمائِهم! فقال لهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنِّي أُعطي رِجالًا حَدِيثٌ عَهدُهم بكُفرٍ»، يَعني: أُريدُ تَأليفَهم وثَباتَهم على الإسلامِ بأنْ أُعطيَ لهمُ المالَ؛ لا لِأنَّهم مِن قُرَيشٍ، أو لِأيِّ غَرَضٍ آخَرَ.
ثمَّ قال لهم -مُبَشِّرًا، ومُبيِّنًا حُبَّه واختيارَه لهم دُونَ غَيرِهم مِنَ المُسلِمينَ: «أمَا تَرضَوْنَ أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالأموالِ» فيَأخُذوها إلى بُيوتِهم وأهلِيهم، وتَرجِعوا إلى رِحالِكم وبُيوتِكم برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَكونَ ذلك خَيرًا مِنَ الأموالِ، ثمَّ أقسَمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم بقولِه: «فوَاللهِ ما تَنقَلِبونَ به» فتَرجِعونَ به إلى دِيارِكم ومَدينَتِكم «خَيرٌ ممَّا يَنقَلِبونَ به» هَؤُلاءِ مِنَ الأموالِ، وهنا ظَهَرَ لِلأنصارِ مَكانَتُهم عِندَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمَكانَتُهم فَوقَ كُلِّ مَن أخَذوا الأموالَ؛ تَأليفًا لِقُلوبِهم، فقالوا: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، قد رَضِينا، فقال لهم: «إنَّكم ستَرَوْنَ بَعدِي أثَرةً شَدِيدةً»، يَعني: ستَجِدونَ استِبدادًا عليكم وانفِرادًا بالأموالِ والحُقوقِ مِنَ الأُمَراءِ دُونَكم بما لكمْ بغَيرِ حَقٍّ، فيُعطِي المَسؤولُ غَيرَكم ما لا يُعطِيكم، ويَستَعمِلُهم في الوَظائفِ والوِلاياتِ ما لا يَستَعمِلُكم، ثمَّ قال لهم مُوصيًا ومُرشِدًا: «فاصبِروا حتى تَلْقَوُا اللهَ ورَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الحَوضِ»، والمَعنى: فاصبِروا على ما تَلقَوْنَه في الدُّنيا مِن بَعدي، حتَّى تَلقَوْني على الحَوضِ في القيامةِ سالِمينَ مِنَ التَّنافُسِ والتَّباغُضِ في حُطامِ الدُّنيا، فعِندَها تُوَفَّوْنَ أُجورَكم مِنَ اللهِ تَعالى، فتَظْفَرونَ بالثَّوابِ الجَزيلِ على الصَّبرِ. وحَوضُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَجمَعُ ماءٍ عَظيمٌ يَرِدُه المُؤمِنونَ في عَرَصاتِ القيامةِ.
وفي رِوايةِ مُسلِمٍ: «قالوا: سنَصبِرُ» على الأذى.
ثمَّ قال أنَسٌ: فلم نَصبِرْ على الأثَرةِ والاستِبدادِ، كما أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: مَشروعيَّةُ إعطاءِ المُؤلَّفةِ قُلوبُهم مِنَ الغَنائِمِ وما في حُكمِها مِن أموالِ الدَّولةِ؛ تَأليفًا لِقُلوبِهم، وتَثبيتًا لهم على الإسلامِ.
وفيه: فَضلُ الأنصارِ.
وفيه: اختِصاصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالأنصارِ، واختِصاصُهم بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: الأمْرُ بالصَّبرِ على استِبدادِ الأُمَراءِ وتَفضيلِهم لِغَيرِ ذَوي الاستِحقاقِ.
وفيه: إثباتُ الحَوضِ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ القيامةِ.