باب البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام، عن قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه
عن جده، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة" (2)
لقد نظَّم الشَّرعُ الحكيمُ أمورَ الناسِ كلَّها، وجاء بما فيه مَصلحتُهم، وأحَلَّ لهم الطَّيِّباتِ وحرَّم عليهم الخبائثَ، وأباح لهم التَّمتُّعَ بالحياةِ ومَلذَّاتِها، لكنْ دونَ إفراطٍ أو نسيانٍ لحقوقِ اللهِ والعبادِ. ... وفي هذا الحديثِ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ رَضِي اللهُ عنهما: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "كُلوا واشْرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا"، أي: افعَلوا كلَّ ذلك مِن أموالِكم، ولا حرَجَ عليكم فيما أباحه اللهُ عزَّ وجلَّ وفصَّلَتْه السُّنَّةُ النَّبويَّةُ، "ما لم يُخالِطْه إسرافٌ"، وهو الإفراطُ ومُجاوَزةُ الحَدِّ، "أو مَخِيلةٌ" وهي: الزَّهْوُ والتَّكبُّرُ والإعجابُ بالفِعلِ أو النَّفسِ، وهذا الحديثُ مُوافِقٌ لمعنى قولِه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقولِه تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وهو جامِعٌ لفَضائلِ تَدبيرِ الإنسانِ لنَفْسِه، وفيه تدبيرُ مَصالحِ النَّفْسِ والجسَدِ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فإنَّ السَّرَفَ في كلِّ شيءٍ يُضِرُّ بالجسَدِ، ويُضِرُّ بالمعيشةِ؛ فيُؤدِّي إلى الإتلافِ، ويُضِرُّ بالنَّفسِ إذ كانَت تابِعةً للجسَدِ في أكثَرِ الأحوالِ، والمَخِيلةُ تُضِرُّ بالنَّفسِ حيثُ تُكسِبُها العُجْبَ، وتُضِرُّ بالآخِرَةِ حيث تُكسِبُ الإثمَ، وبالدُّنيا حيث تُكسِبُ المَقْتَ مِن النَّاسِ. ... وفي الحديثِ: بيانُ سَعَةِ الإسلامِ وتَيسيرِه على النَّاسِ في المباحاتِ، دونَ إفراطٍ مُخِلٍّ بالمالِ أو النَّفسِ أو الدُّنيا والآخرةِ. وفيه: الحثُّ على التَّرشيدِ للنَّفسِ والتَّحكُّمِ في شِهواتِها.