باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في أكفانه
بطاقات دعوية
عن أمِّ العلاءِ [وهي] امرأةٌ منَ الأَنصارِ [قد] بايعَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه اقتُسِمَ المهاجرونَ قُرعةً، فطارَ لنا عثمانُ بن مظعونٍ [في السكنى، حين اقترعت الأنصارُ على سكنى المهاجرين]، فأنزلناهُ في أبياتِنا، فوَجِعَ وجَعَه الذي توُفيِّ فيهِ، [فَمرَّضناه]، فلمَّا تُوُفِّيَ وغُسِّلَ وكُفِّنَ في أثوابهِ، دخلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: رحمةُ الله عليكَ أبا السائبِ فشهادتي عليكَ لقد أكرَمَكَ الله، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"وما يُدريكِ أنَّ الله أَكرمَهُ؟! "، فقلتُ: [لا أَدري والله]، بأبي أنتَ [وأمي] يا رسولَ الله! فمنْ يُكْرمُه الله؟ فقالَ عليهِ السلامُ:
"أمَّا هوَ فقدْ جاءهُ [والله] اليقينُ، والله إني لأَرجو له الخيرَ، والله ما أَدري وأنا رسولُ الله ما يُفعَلُ بي (- وفي روايةٍ: به) [ولا بكم] ". قالتْ: فوالله لا أُزكِّي أَحداً بعدَه أبداً، [قالت: وأحزَنني ذلكَ، قالت: فنمت فأُريتُ لعثمانَ عَيناً تجري، فجئت إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه، فقالَ:
"ذلك عمله] [يَجري له] ".
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُربِّي أصحابَه على التَّورُّعِ عن الدُّخولِ في أحكامِ اللهِ على عِبادِه بالجنَّةِ أو النَّارِ؛ وذلك بألَّا يَتألَّى أحدٌ على اللهِ؛ فالإنسانُ له الظَّاهرُ مِن أخيهِ، أمَّا السَّرائرُ فلا يَعلَمُهما إلَّا اللهُ سُبحانه.
وهذا الحديثُ بَيانٌ لذلك؛ فتَحكي أمُّ العَلاءِ -وهي امرأةٌ مِن الأنصارِ قدْ بايعَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: عاقَدتْه على الإسلامِ وعدَمِ الإشراكِ باللهِ وفِعلِ الفَواحشِ- أنَّ عُثمانَ بنَ مَظْعُونٍ رَضيَ اللهُ عنه وَقَع له سَهْمُه في السُّكْنى حينَ اقترَعَتِ الأنصارُ على سُكنى المهاجِرينَ بيْنهم لَمَّا دَخَلوا المدينةَ عندَ الهجرةِ، ولم يكُنْ لهم مَساكنُ، قالتْ أمُّ العَلاءِ: فسَكَن عندَنا عُثمانُ بنُ مَظعونٍ رَضيَ اللهُ عنه، فاشتَكى ومَرِض، فقُمْنا بأمْرِه ومُراعاتِه، فماتَ رَضيَ اللهُ عنه مِن مَرَضِه هذا، فغَسَّلوه وكَفَّنُوه، فدَخَل عليهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالتْ: رَحمةُ اللهِ عليك يا أبا السَّائبِ -وهي كُنية عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه- فشَهادتي لكَ: أنَّه قدْ أكْرَمَك اللهُ، وفي رِوايةِ أحمَدَ مِن حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: «هَنيئًا لكَ الجنَّةُ»، فجَزَمَت له في الآخرةِ بالنَّعيمِ؛ لِما عَرَفَتْه عنه مِن العبادةِ ونحْوِها، فنَظَرَ إليها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نظَرَ غَضْبانَ -كما في رِوايةِ أحمَدَ- زَجْرًا لها؛ لأنَّها جَزَمَت لعُثمانَ بالجنَّةِ، وهذا مِن سُوءِ الأدبِ بالحكْمِ على الغيبِ، مع أنَّ أحَدًا لا يَعلَمُ مَصيرَ غيرِه عندَ اللهِ، وهنا علَّمَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: وما يُدريكِ؟! أي: ومِن أينَ عَلِمتِ أنَّ اللهَ أكْرَمَه؟ فأجابتْه: لا أدْري بأَبي أنت وأُمِّي يا رَسولَ اللهِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا عثمانُ فقدْ جاءهُ -واللهِ- اليقينُ، وهو الموتُ، وإنِّي لَأرْجو له الخيرَ، ثمَّ أقسَمَ باللهِ أنَّه لا يَدري -وهو رَسولُ اللهِ- ما يُفعَلُ بعُثمانَ بنِ مَظعونٍ، وفي رِوايةٍ في صَحيحِ البُخاريِّ: «ما يُفعَلُ بي»، أي: لا أعلَمُ عِلمَ اليقينِ ما يُفعَلُ بي في الدَّارِ الآخرةِ إلَّا ما أعْلَمَني اللهُ به وأطْلَعَني عليه.
ثمَّ قالتْ أمُّ العَلاءِ: فواللهِ لا أُزكِّي أحدًا بعْدَه أبدًا، أي: لا أقطَعُ لأحدٍ بعْدَه بالجنَّةِ مهْما بَلَغَ، إلَّا الذين شَهِدَ لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأحْزَنَها ما فَعَلَتْه وما قالَه لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ أخْبَرَت أنَّها لمَّا نامَتْ رَأَت لعُثمانَ عَينَ ماءٍ تَجري، فجاءت إلى رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبَرَتْه بما رَأَتْ لعُثمانَ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ذلكِ عَمَلُه». وقيل: إنَّما فسَّرَ عَينَ الماءِ بالعملِ وجَريانَها بجَريانِه؛ لأنَّ كلَّ ميِّتٍ يُختَمُ على عَمَلِه، إلَّا الذي مات مُرابطًا؛ فإنَّ عمَلَه يَنْمو إلى يومِ القيامةِ، وقد كان عُثمانُ بنُ مَظعونَ مُرابِطًا مُهاجِرًا.
وقدْ وَرَدَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يُرغِّبُ في الشَّهادةِ للميِّتِ بالخيرِ، وذِكرِ مَحاسنِه، غيرَ أنَّه لا يُجزَمُ له بجنَّةٍ أو نارٍ؛ ففي البُخاريِّ مِن حَديثِ عمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أيُّما مُسلِمٌ شَهِدَ له أربعةٌ بخَيرٍ، أدْخَلَه اللهُ الجنَّةَ. فقُلْنا: وثَلاثةٌ؟ قال: وثَلاثةٌ. فقُلْنا: واثنانِ؟ قال: واثنانِ».
والحديثُ تَعليمٌ للنَّاسِ ألَّا يَتألَّى أحدٌ على اللهِ، ولا يَسبِقَه بحكْمٍ وهو لا يَعلَمُ؛ لأنَّ اللهَ هو الذي يَحكُمُ ويَفصِلُ في أفعالِ العبادِ، ولأنَّنا لا نَعلَمُ بدَواخلِ الميِّتِ التي يَعلَمُهما اللهُ، وحسْبُ النَّاسِ أنْ يَقولوا: نَحسَبُه على خَيرٍ، ونحْوَ هذا.