باب الرجل يخطب على قوس
حدثنا محمد بن سلمة المرادي، أخبرنا ابن وهب، عن يونس، أنه سأل ابن شهاب، عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فذكر نحوه، قال: «ومن يعصهما فقد غوى، ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه، ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه فإنما نحن به وله»
( رَشَدَ ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ ( وَمَنْ يَعْصِهِمَا ) فِيهِ جَوَازُ التَّشْرِيكِ بَيْنَ ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولهِ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِلَفْظِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَا ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي يَوْمَ خَيْبَرٍ إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمْرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَمَّا مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : مَنْ يُطِعِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى . فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ ، قُلْ : مَنْ يَعْصِ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى " فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ أَنَّ سَبَبَ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَنَّ الْخُطْبَةَ شَأْنُهَا الْبَسْطُ وَالْإِيضَاحُ وَاجْتِنَابُ الْإِشَارَاتِ وَالرُّمُوزِ . قَالَ : وَلِهَذَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا لِتُفْهَمَ عَنْهُ ، قَالَ وَإِنَّمَا ثَنَّى الضَّمِيرَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ خُطْبَةَ وَعْظٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيمُ حُكْمٍ ، فَكُلُّ مَا قَلَّ لَفْظُهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى حِفْظِهِ ، بِخِلَافِ خُطْبَةِ الْوَعْظِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حِفْظَهَا وَإِنَّمَا يُرَادُ الِاتِّعَاظُ بِهَا ، وَلَكِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّمِيرَيْنِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْبَابِ وَهُوَ وَارِدٌ فِي الْخُطْبَةِ لَا فِي تَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ
وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى الْخَطِيبِ تَشْرِيكَهُ فِي الضَّمِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّسْوِيَةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَطْفِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ اسْمِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ مَا شَاءَ فُلَانٌ وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا مَا قَدَّمْنَا مِنْ جَمْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ ضَمِيرِ اللَّهِ وَضَمِيرِهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى ذَلِكَ الْخَطِيبِ التَّشْرِيكَ لِأَنَّهُ فَهِمَ مِنْهُ اعْتِقَادَ التَّسْوِيَةِ فَنَبَّهَهُ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ وَأَمَرَهُ بِتَقْدِيمِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى اسْمِ رَسُولِهِ لِيُعْلَمَ بِذَلِكَ فَسَادُ مَا اعْتَقَدَهُ
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : فِي إِسْنَادِهِ عِمْرَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الْعَوَامِّ الْقَطَّانُ الْبَصْرِيُّ ، قَالَ عَفَّانُ : كَانَ ثِقَةً ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَالنَّسَائِيُّ : ضَعِيفُ الْحَدِيثِ ، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُرَّةَ : لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ : كَانَ عِمْرَانُ حَرُورِيًّا وَكَانَ يَرَى السَّيْفَ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ . هَذَا آخِرُ كَلَامِهِ . ودَاوَرُ آخِرُهُ رَاءٌ مُهْمَلَةٌ
( فَقَدْ غَوَى ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَالصَّوَابُ الْفَتْحُ كَمَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ مِنَ الْغَيِّ وَهُوَ الِانْهِمَاكُ فِي الشَّرِّ . وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي حُكْمِ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى الْوُجُوبِ ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ إِلَى عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ثُبُوتًا مُسْتَمِرًّا أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَذَهَبَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ وَالْجُوَيْنِيُّ إِلَى أَنَّ الْخُطْبَةَ مَنْدُوبَةٌ فَقَطْ
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ لِلْوُجُوبِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا قَالَ كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْذَمُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَفِي رِوَايَةٍ الْخُطْبَةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَبِحَدِيثِهِ أَيْضًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مَرْفُوعًا حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عَبْدِي وَرَسُولِي فَوَهْمٌ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَوَّلِ عَدَمُ قَبُولِ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَا حَمْدَ فِيهَا ، وَغَايَةُ الثَّانِي عَدَمُ جَوَازِ خُطْبَةٍ لَا شَهَادَةَ فِيهَا بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، وَالْقَبُولُ وَالْجَوَازُ وَعَدَمُهَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوُجُوبَ قَطْعًا . انْتَهَى
قُلْتُ : وَالْحَقُّ مَعَ الْجُمْهُورِ