باب حرمة دم المؤمن وماله1
سنن ابن ماجه
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: "ألا إن أحرم الأيام يومكم هذا، ألا وإن أحرم المشهور شهركم هذا، ألا وإن أحرم البلد بلدكم هذا، ألا وإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم. قال: "اللهم اشهد" (1)
خَطَب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المسلِمين في حَجَّةِ الوَداع، وهي الحَجَّةُ التي حَجَّها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان كالمُوَدِّعِ لهم في خُطَبِ الحجِّ، ولمْ يَلْبَثْ كَثيرًا بعْدَه، وكانت في السَّنةِ العاشرةِ مِن الهِجرةِ، فخطب خُطبةً جامعةً، نبَّهَ فِيها على أُصولٍ مُهِمَّةٍ مِن أُصولِ الشَّرِيعَة الإسلامِيَّةِ؛ وهي حُرمةُ الدَّمِ والمالِ والعِرْضِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في خُطبتِه للنَّاسِ وابتدأهم بالتنبيهِ: «ألَا»، ثمَّ سألهم: «أيُّ شَهْرٍ تَعْلَمونه أَعْظَم حُرمةً؟ قالوا: ألَا شَهْرُنا هذا»، وهو ذو الحِجَّة؛ لأنَّه مِنَ الأشهُرِ الحُرُمِ، وبه مَوسِمُ الحَجِّ، ثم سألهم مع التنبيهِ مرَّةً أخرى، فقال: «ألَا، أيُّ بَلَدٍ تَعلَمونه أَعْظَم حُرمةً؟ قالوا: ألَا بَلَدُنا هذا» يُرِيدون: مَكَّةَ المكَرَّمةَ؛ لأنَّ فيها بيتَ اللهِ المحرَّمَ، ثم سألهم مع التنبيهِ مَرَّةً ثالثةً: «ألَا، أيُّ يومٍ تَعلَمونه أَعْظَمَ حُرمةً؟ قالوا: ألَا يومُنا هذا»، وهو يوْمُ عَرَفَةَ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فإنَّ اللهَ تبارَك وتعالَى قدْ حرَّم عليكم دِماءَكم» فلا تُسفَكُ إلا بحَقِّها، ولا يُقتَلُ إنسانٌ إلَّا بالشُّروطِ الشرعيَّةِ التي حدَّدها الشَّرعُ، وحرَّم أموالَكم؛ فلا تأكُلوها بينكم بالباطِلِ إلَّا أن تكونَ في منفعةٍ شَرعيَّةٍ، كتجارةٍ أو صَدَقةٍ أو هِبَةٍ، وحَرَّم أعراضَكم عليكم؛ فلا تَنْتَهِكوها إلَّا بحَقِّها، وهي محرَّمةٌ كحُرمةِ يوْمِ عرفةَ، في بلدِكم مكَّةَ، في شَهرِ ذي الحِجَّةِ، ثم سألهم: «ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟» قالها ثَلاثَ مرَّاتٍ، وفي كُلِّ مرَّةٍ يُجِيبونَه: «ألَا نَعَمْ»، أي: نَعَمْ قدْ بَلَّغْتَ، وعَلِمْنا وفَهِمْنا.
ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحذِّرًا أُمَّتَه: «وَيْحَكُمْ!» أو قال: «وَيْلَكُمْ!» وهما كَلِمتانِ استَعملَتْهما العَرَبُ بمعنى التَّعجُّبِ والتَّوجُّعِ، ثم حذَّرَهم أنْ يَرجِعوا بعْدَه كفَّارًا يَضرِبُ بَعضُهم رِقابَ بَعضٍ؛ وذلك بأنْ تَحمِلَهم العداوةُ والبَغضاءُ فيما بيْنهم على استحلالِ بَعضِهم دِماءَ بعضٍ. وقيل: يَحتمِلُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلِمَ أنَّ هذا لا يكونُ في حَياتِه، فنَهاهُم عنه بعْدَ وَفاتِه، يعني إذا فارقْتُ الدُّنيا فاثْبُتوا بَعْدي على ما أنتمْ عليه مِن الإيمانِ والتَّقوى، ولا تُحارِبوا المسلِمينَ، ولا تَأخُذوا أموالَهُم بالباطلِ، وقيل: لا تكُنْ أفعالُكم شَبيهةً بأفعالِ الكُفَّارِ في ضَرْبِ رِقابِ المسلمينَ، أو لا يَظلِمْ بَعضُكم بعضًا؛ فلا تَسْفِكوا دماءَكم ولا تهتِكُوا أعراضَكم ولا تَستَبِيحوا أموالَكم.
وفي الحَديثِ: عَلامةٌ مِن عَلاماتِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه: النَّهيُ والتَّشديدُ عن الاقتِتالِ بيْن المسلِمينَ وسَفْكِ بَعضِهم دِماءَ بَعضٍ.