باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان، وفيه مقتل عمر رضي الله عنهما
بطاقات دعوية
عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف؛ قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض (20) ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل. قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق. قال: قالا: لا. فقال عمر: لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا. قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب.
قال: (فيه لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللا؛ تقدم، فكبر، وربما قرأ سورة {يوسف} أو {النحل} أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني -أو أكلني- الكلب؛ حين طعنه، فطار العلج بسكيني ذات طرفين، لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين؛ طرح عليه برنسا، فلما ظن العلج أنه مأخوذ؛ نحر نفسه.
وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد؛ فإنهم لا يدرون؛ غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا؛ قال: يا ابن عباس! انظر من قتلني؟ فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع (21)؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة! -وكان العباس أكثرهم رقيقا- فقال: إن شئت فعلت -أي: إن شئت قتلنا (22) - قال: كذبت؛ بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم!
فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكان الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس. وقائل يقول: أخاف عليه. فأتي بنبيذ، فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن، فشربه، فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين! ببشرى الله لك؛ من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدم (23) في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي. فلما أدبر؛ إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام. قال: ابن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك.
يا عبد الله بن عمر! انظر ماذا علي من الدين؟ فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه. قال: إن وفى له مال آل عمر (24) فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدى بن كعب، فإن لم تف أموالهم؛ فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال.
انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي (وفي طريق: قال: وكان الرجل إذا أرسل إليها من الصحابة قالت: لا والله؛ لا أوثرهم بأحد أبدا 8/ 153) (25).
فلما أقبل؛ قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين! أذنت [لك 2/ 107]. قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهم إلي من ذلك [المضجع]، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم [ـوا]، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني [ف 4/ 107]، ردوني إلى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلا (26) لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل؛ فقالوا: أوص [نا]، يا أمير المؤمنين! استخلف. قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر -أو الرهط- الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، [فمن استخلفوا بعدي فهو الخليفة، فاسمعوا له وأطيعوا] .. فسمى: عليا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدا، وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم (27) عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين؛ أن يعرف لهم حقهم، و [أن]، يحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا؛ الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم (وفي رواية: من قبل أن يهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - 6/ 59)؛ أن يقبل من محسنهم، وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا؛ فإنهم ردء الإسلام، وجباة المال، وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرا؛ فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام؛ أن يؤخذ من حواشي أموالهم (28)، وترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم (29)، و [أن]، لا يكلفوا إلا (وفي رواية: فوق) طاقتهم (ومن طريق آخر: أوصيكم بذمة الله، فإنه ذمة نبيكم، ورزق عيالكم 4/ 64).
فلما قبض خرجتا به، فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر؛ قال: يستأذن عمر بن الخطاب. قالت: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه.
فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي. فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه؟ والله عليه (30) والإسلام، لينظرن أفضلهم في نفسه. فأسكت الشيخان، فقال عبد الحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن آلو (*) عن أفضلكم؟ قالا: نعم. فأخذ بيد أحدهما (31)، فقال: لك قرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق؛ قال: ارفع يدك يا عثمان! فبايعه، وبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه.
هذا الحَديثُ في مَقتَلِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، وكان ذلك في أربَعٍ بَقِينَ مِن ذِي الحِجَّةِ سَنةَ ثَلاثٍ وعِشرينَ مِن الهِجرةِ، وفيه يُخبِرُ التَّابِعيُّ عَمرُو بنُ مَيمونٍ: أنَّهُ رَأى عُمَرَ قبْلَ أنْ يُقتَلَ بأيَّامٍ في المَدينةِ، فوقَفَ عُمَرُ على حُذَيْفةَ بنِ اليَمانِ وعُثمانَ بنِ حُنَيفٍ رَضيَ اللهُ عنهما، والمُرادُ بوُقوفِ عُمَرَ عليهما: أنَّ حُذَيْفةَ وعُثمانَ رَضيَ اللهُ عنهما كانا مِن عُمَّالِه على أرْضِ العِراقِ، وكان عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه بعَثَهما يَضْرِبانِ الخَراجَ والجِزْيةَ على أهْلِها، يَسْأَلُهما: كيف فَعلْتُما؟ أتَخافانِ أنْ تَكونا قدْ حمَّلْتُما الأرضَ ما لا تُطيقُ؟ خَشيَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَكونا قدْ فَرَضا على أهْلِها ما لا يُطيقوهُ، ولَيس لهمُ القُدْرةُ على دَفْعِه، فأجابَهُ حُذَيْفةُ وعُثمانُ بأنَّ أهْلَها لدَيْهمُ القُدرةُ على دَفعِ ما فُرِضَ عليهم، وأنَّ ما فُرِضَ لَيس فيه زِيادةٌ كَثيرةٌ، فطَلَب منهما عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُعيدَا النَّظرَ في سُؤالِه وإجابَتِهما، وهذا مِن بابِ الحَذَرِ والخَشيةِ مِن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه في أنْ يقَعَ منهما ظُلمٌ، ثمَّ وعَدَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إنْ سلَّمَه اللهُ ألَّا يَدَعَ أرامِلَ العِراقِ في حاجةٍ لأحَدٍ بعدَه، والأرْمَلةُ: هي مَن ماتَ زَوجُها، فما أتى عليه أربَعةُ أيَّامٍ مِن وَعْدِه هذا حتَّى أُصيبَ، وكان مَوتُه في تلك الإصابةِ.
ثمَّ حَكى عَمرُو بنُ مَيْمونٍ كيفَ كانت إصابَتُه؛ فقال: إنَّهُ كان قائمًا في صَّلاةِ الصُّبحِ، وكان بيْنَه وبيْنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه عَبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، وكان عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إذا مرَّ بيْن صُفوفِ الصَّلاةِ، قال: اسْتَوُوا، أي: اعْتَدِلوا في صُفوفِكم، فإذا لم يَرَ رَضيَ اللهُ عنه في الصُّفوفِ خَللًا وأنَّ الصُّفوفَ قدِ استَوَتْ، تَقدَّمَ للإمامةِ، وكبَّرَ للصَّلاةِ، ورُبَّما قَرَأ سُورةَ يوسُفَ، أو سُورةَ النَّحلِ، أو نَحْوَ ذلك في الرَّكعةِ الأُولى؛ حتَّى يَجتَمِعَ النَّاسُ، فلمَّا دخَلَ في الصَّلاةِ وكبَّرَ تَكبيرةَ الإحرام، طَعَنَه مُباشَرةً أبو لُؤْلؤةَ المَجوسيُّ غُلامُ المُغيرةِ بنِ شُعْبةَ، فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه حينَ طُعِنَ: قَتَلَني -أو أكَلَني- الكَلبُ. وقولُه: «فطارَ العِلْجُ بسِكِّينٍ ذاتِ طَرَفينِ، لا يمُرُّ على أحدٍ يَمينًا ولا شِمالًا إلَّا طَعَنهُ»، العِلْجُ: الرَّجلُ مِن كفَّارِ العَجَمِ، والمُرادُ: فِرارُ القاتلِ بعْدَ طَعْنِه عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، وكانت معَه سِكِّينٌ ذاتُ طَرَفينِ لا يمُرُّ بأحدٍ في صُفوفِ المُصلِّينَ إلَّا طعَنَه، حتَّى إنَّه طعَنَ ثَلاثةَ عَشَرَ رَجلًا، مات منهم سَبعةٌ، فلمَّا رَأى ذلك رَجلٌ مِن المُسلِمينَ رَمَى عليه بُرنُسًا؛ ليَمنَعَه مِن طَعنِ أحدٍ، والبُرنُسُ: رِداءٌ ذُو كُمَّينِ يتَّصِلُ به غِطاءٌ للرَّأسِ، فلمَّا عَلِم القاتلُ أنَّه قدْ تُمُكِّنَ منهُ، ولنْ يَستَطيعَ الفِرارَ قَتَل نفْسَه.
وأمسَكَ عُمَرُ حينَ طُعِنَ بيَدِ عبْدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكان فيمَن يُصلِّي خلْفَه، فقدَّمَه للإِمامةِ مَكانَه لإتْمامِ الصَّلاةِ، وكان مَن يَلي عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه رَأى وعَلِم ما حَصَل، فلمْ يَتأثَّروا بما تَغيَّرَ في الإمامةِ، وأمَّا مَن كانوا في نَواحي المَسجِدِ وبَعيدينَ عنه، فتَأثَّروا بفَقْدِ صَوتِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، وهمْ يَقولونَ: سُبحانَ اللهِ! سُبحانَ اللهِ! فصلَّى بهم عبدُ الرَّحمنِ صَلاةً خَفيفةً.
فلمَّا انصَرَفَ النَّاسُ مِن الصَّلاةِ طلَب عُمَرُ مِن عَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ أنْ يَعرِفَ له مَن قتَلَه، فجالَ ساعةً، أي: تأخَّرَ مدَّةً مِن الزَّمنِ باحِثًا عمَّن هو، فجاءَه وأخبَرَه أنَّه غُلامُ المُغيرةِ، والمُرادُ به: العَبدُ المَمْلوكُ، فاستَوْضَحَه عُمَرُ بقَولِه: «الصَّنَعُ؟» أيِ: الغُلامُ الصَّانِعُ؛ فإنَّه كان غُلامًا نجَّارًا، فأجابَهُ ابنُ عبَّاسٍ: نَعمْ. فقال عُمَرُ: قاتَلَهُ اللهُ! لقد أمرْتُ بهِ مَعْروفًا، أي: أوصَيْتُ له بخَيرٍ ومَعروفٍ، ثمَّ حمِدَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه ربَّهُ الَّذي لم يَجعَلْ مَوتَه بيَدِ رَجلٍ يَدَّعي الإسْلامَ، ثمَّ وجَّهَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه كلامَهُ إلى عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ: قدْ كُنتَ أنتَ وأبوكَ تُحبَّانِ أنْ تَكثُرَ العُلوجُ بالمَدينةِ، ويَقصِدُ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه العبَّاسَ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ؛ لأنَّه كان أكثرَ الصَّحابةِ رَقيقًا، فقال ابنُ عبَّاسٍ: إنْ شئْتَ فعَلْتُ، أي: قَتَلْنا؟ فقال عُمَرُ: كذَبْتَ! بعْدَما تكَلَّموا بلِسانِكُم، وصلَّوْا قِبلَتَكم، وحَجُّوا حَجَّكم، أي: بعدَ ما تكَلَّموا العَربيَّةَ، وأسْلَموا، ويُقالُ: إنَّ أهلَ الحِجازِ يَقولونَ: «كذَبْتَ» في مَوضعِ «أخْطأْتَ».
ثمَّ حُمِلَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إلى بَيتِه، وانطلَقَ النَّاسُ معَه، وكأنَّهم لم تُصِبْهم مُصيبةٌ مِن قبْلُ، فمنهم مَن يقولُ: لا بَأسَ عليه، وآخَرُ يقولُ: أخافُ عليه، ثمَّ إنَّهم أَتَوْا عُمَرَ بنَبيذٍ فشَرِبَه، فخَرَج مِن جَوفِه، ثمَّ أُتيَ بلَبنٍ فشَرِبَه، فخَرَج مِن جُرْحِه، فعَلِموا أنَّه ميِّتٌ، والنَّبيذُ: نَقيعُ التَّمرِ والزَّبيبِ قبْلَ أنْ يَشتَدَّ ويُصبِحَ مُسكِرًا، ويُقصَدُ بخُروجِ النَّبيذِ مِن الجَوفِ، أي: مِن مَوضِعِ الجُرْحِ، وقدْ شَرِبَ لَبنًا بعْدَ النَّبيذِ ليَتَبيَّنَ الخارجُ مِن الجُرحِ، هل مَشْروبُه أمْ دَمُه؛ لأنَّهُ عندَ خُروجِ النَّبيذِ لم يَتبيَّنْ لَونُه مِن لَونِ الدَّمِ، فلمَّا شَرِبَ اللَّبنَ ظهَر بَياضُهُ عندَ خُروجِه مِن مَوضِعِ الجُرحِ، فعَلِموا أنَّهُ ميِّتٌ على كلِّ حالٍ، فتَوافَدَ النَّاسُ عليه يَرَوْنه ويُثْنون عليه، فدَخَلَ عليه رَجلٌ شابٌّ، فقال: «أبْشِرْ يا أميرَ المؤمِنينَ ببُشْرى اللهِ لكَ؛ من صُحْبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَدمٍ في الإسْلامِ ما قد علِمْتَ، ثمَّ وَلِيتَ فعدَلْتَ، ثمَّ شَهادةٌ»، فردَّ عليه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنهُ: وَدِدتُ أنَّ ذلكَ كَفافٌ، لا عَليَّ ولا لي، أي: إنَّ الَّذي أدَّيتُ يكونُ بقَدْرِ الحاجةِ لا فَضْلَ فيهِ ولا نُقْصانَ، فلمَّا أدْبَرَ الشَّابُّ، والتَفَّ بظَهْرِه للذَّهابِ، رأَى عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه إزارَه يَمَسُّ الأرضَ، فثِيابُه بَلَغَت ما تحتَ الكَعبَينِ، والإزارُ: ثَوبٌ يُحيطُ بالنِّصفِ الأسفَلِ مِنَ البدَنِ، فطلَبَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه مِن الحاضِرينَ أنْ يَأْمُروا الرَّجلَ بالرُّجوعِ إليه، فلمَّا جاءَه، قال لهُ عُمَرُ: «ابنَ أَخي، ارفَعْ ثَوبَكَ؛ فإنَّهُ أنْقى لثَوبِكَ»، أي: أطهَرُ لهُ، ويَحفَظُه منَ النَّجاساتِ، «وأتْقى لربِّكَ»؛ لأنَّ فيه طاعةً للهِ.
ثمَّ طلَبَ رَضيَ اللهُ عنه مِنِ ابنِه عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنْ يَنظُرَ ما عليه مِن دَينٍ ويَحْسُبَه، فحَسَبوهُ، فوَجدُوه ستَّةً وثَمانينَ ألفًا أو نَحْوَ ذلك، فحدَّدَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه لهم كيفَ يكونُ سَدادُه؛ فبَدأ بمالِ آلِ عُمَرَ، فإنْ لم يَكْفِ فمِن مالِ بَني عَديِّ بنِ كَعبٍ، وهمُ العَدَويُّونَ، وهم بَطْنٌ مِن قُرَيشٍ، وعَديٌّ الجَدُّ الأعْلى لعُمَرَ، فإنْ لم يَكْفِ فمِن مالِ قُرَيشٍ، وقولُه: «وَلا تَعْدُهم إلى غَيرِهم»، أي: لا تَتجاوَزْ ما حدَّدْتُ لكَ في مُطالَبتِهم لسَدادِ الدَّينِ، ثمَّ طلَب منِ ابنِه عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَذهَبَ إلى عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها ويقولَ لها: «يَقْرَأُ عَلَيكِ عُمَرُ السَّلَامَ»، وألَّا يقولَ: «أمِيرُ المُؤْمِنِينَ»، وعلَّل ذلك بقولِه: «فإنِّي لَسْتُ اليومَ لِلْمُؤْمِنِينَ أمِيرًا»، قال ذلك لتَيقُّنِه بالموتِ حينئذٍ، وإشارةً إلى عائشةَ حتَّى لا تُحابِيَه لكونِه أميرَ المؤمنينَ وأنْ يَطلُبُ منها أنْ يُدفَنَ عُمَرُ معَ صاحِبَيْه؛ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه -وكانا قد دُفِنا في حُجرةِ عائشةَ- وكانت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها تَحتَفِظُ لنفْسِها بقَبرٍ بجِوارِهما، فآثَرَتْ به عُمَرَ على نفْسِها، فقال عُمَرُ عندَما أتَتْه مُوافَقَتُها: الحَمدُ للهِ، ما كان مِن شَيءٍ أهمُّ إلَيَّ من ذلكَ، وهو أنْ يُدفَنَ بجِوارِ صاحِبَيْه، ومعَ ذلك فقدْ خَشيَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ تَكونَ مُوافَقَتُها تلك حَياءً منه؛ لصُدورِها في حَياتِه، وأنْ تَرجِعَ بعدَ موتِه؛ ولذلك طلَب مِن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنْ يُعيدَ عليها الإذْنَ بعْدَ وَفاتهِ، وإلَّا رُدَّ لمَقابرِ المُسلِمينَ، ويَقصِدُ مَدافنَ البَقيعِ.
ثمَّ أتَتْ أمُّ المؤمِنينَ حَفْصةُ بنتُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، والنِّساءُ تَسيرُ معَها، قال: فلمَّا رَأيْناها قُمْنا، فوَلَجَتْ عليه، والوُلوجُ: الدُّخولُ، فبكَتْ عندَه مدَّةً مِن الزَّمنِ، فلمَّا استأذَنَ الرِّجالُ، وَلَجَتْ داخِلًا لهم، أي: دخَلَتْ حُجْرةً أُخْرى في المَكانِ الَّذي فيه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه؛ لتُفسِحَ مَكانًا للرِّجالِ، فسَمِعوا بُكاءَها مِن الدَّاخلِ.
ثمَّ أخبَرَ عَمرُو بنُ مَيمونٍ أنَّ الرِّجالَ طَلَبوا مِن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُوصيَ ويَستَخلِفَ رَجلًا بعْدَه، فترَكَ الأمرَ خيارًا بيْن ستَّةٍ مِن الصَّحابةِ، وقالَ رَضيَ اللهُ عنه: ما أجِدُ أحدًا أحقَّ بهذا الأمرِ مِن هؤلاء النَّفرِ -أوِ الرَّهطِ- الَّذين تُوفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو عنهم راضٍ، وهم: عَليُّ بنُ أبي طالبٍ، وعُثمانُ بنُ عفَّانَ، والزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ، وطَلْحةُ بنُ عُبَيدِ اللهِ، وسَعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنهم جَميعًا. ثمَّ قال رَضيَ اللهُ عنه: «يَشهَدُكم عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وليس له مِنَ الأمرِ شَيءٌ»، أي: يَحضُرُكم عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ، وليس له من أمْرِ الخِلافةِ شَيءٌ قال عَمرُو بنُ مَيمونٍ: «كهَيْئةِ التَّعْزيةِ له»، لمَّا أخْرَجَه مِن أهْلِ الشُّورى في الخلافةِ، أراد جَبْرَ خاطِرَه بأنْ جَعَلَه مِن أهْلِ المشاوَرةِ في ذلك، ثمَّ أوْصَى في سَعدٍ إنْ كانتِ الإمارةُ له فهو ذاك، أي: هو أهْلٌ لها، وإلَّا فعَلى المُتبَقِّينَ مِن السِّتَّةِ إنِ استُخلِفَ فلْيَستَعِنْ بسَعدٍ، وقولُه: «فإنِّي لم أعزِلْه عن عَجزٍ ولا خِيانةٍ»؛ فإنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه كان قدْ عزَلَه عنِ الكُوفةِ.
ثمَّ إنَّهُ رَضيَ اللهُ عنه أوْصَى الخَليفةَ بعْدَه بالمُهاجِرينَ والأنْصارِ، وسائرِ أهلِ الأمْصارِ، والأعْرابِ، والمِصْرُ: البلَدُ، والمُرادُ: البُلدانُ الإسْلاميَّةُ الَّتي فُتِحَتْ، وقولُه في أهلِ الأمْصارِ: «فإنَّهم رِدْءُ الإسْلامِ، وجُباةُ المالِ، وغَيظُ العَدوِّ، وألَّا يُؤخَذَ منهم إلَّا فَضْلُهم عن رِضاهُم»؛ فوَصيَّةُ عُمَرَ في أهلِ الأمْصارِ مِن أجْلِ أنَّهم عَونُ الإسْلامِ وقوَّتُه، وهمُ الَّذين يُجمَعُ منهمُ الأمْوالُ الَّتي تُساعِدُ على نُموِّ الدَّولةِ، يَغيظونَ الأعْداءَ بكَثرَتِهم وشَوْكتِهم.
وقولُه في أهلِ الأعْرابِ وهم ساكِنو الصَّحْراءِ: «فإنَّهم أصْلُ العَربِ، ومادَّةُ الإسْلامِ، أنْ يُؤخَذَ مِن حَواشي أمْوالِهم»، أي: همُ المُكَوِّنُ الرَّئيسُ الَّذي اعتَمَدَ عليهمُ الإسْلامُ، وأنْ يُؤخَذَ الوسَطُ مِن أمْوالِهمُ الَّتي ليست خَيرَها ولَيست أسْوَأَها، ثمَّ تُرَدُّ تلك الأمْوالُ فتُنفَقُ على فُقرائِهم، ثمَّ وَصَّى بأهلِ الذِّمَّةِ، وهم مَن له عَهدٌ وأمانٌ معَ المُسلِمينَ، وأنْ يُوفَى معَهم بقَدْرِ ما لَهم مِن عَهدٍ، وإنْ أرادَ عَدوٌّ قِتالَهم والاعْتِداءَ عليهم، خرَج المُسلِمونَ لقِتالِ هذا العَدوِّ وحِمايتِهم منه.
فلمَّا قُبِضَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه، أنفَذَ عَبدُ اللهِ بنُ عمَرَ وَصيَّةَ أبيهِ في سَلامِه واستِئْذانِه لعائِشةَ رَضيَ اللهُ عنهما، فدُفِنَ معَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومعَ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فلمَّا فَرَغوا مِن دَفنهِ اجتَمَعَ السِّتَّةُ الَّذين أوْصى عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يكونَ الخَليفةُ مِنهم، فقال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه: اجْعَلوا أمْرَكم إلى ثَلاثةٍ منكم، أي: أنْ يَختارَ ثَلاثةٌ ثَلاثةً غَيرَهم، ومنها يَنتَهي الأمرُ إلى واحدٍ، فانْتَهى الأمرُ إلى عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، وعُثمانَ بنِ عفَّانَ، وعَبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، قال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه مُخاطِبًا علِيًّا وعُثمانَ رَضيَ اللهُ عنهما: «أيُّكُما تَبرَّأَ مِن هذا الأمْرِ، فنَجعَلُه إليه، واللهُ عليه والإسْلامُ؟»، أي: مَن منكما يَتبرَّأُ مِن أمْرِ الخِلافةِ، ويَبتَعِدُ عنه، فنَجعَلُ الاخْتيارَ بيْن الاثْنَينِ المُتبقِّيَيْنِ له، واللهُ رَقيبٌ عليه يُحاسِبُه على فِعلهِ، والإسْلامُ حاكِمٌ عليه بأحْكامِه، «لَيَنظُرَنَّ أفْضَلَهم في نفْسِه؟» أي: ليَتفكَّرَ كلُّ واحدٍ منهما في نفْسِه: مَن فيهما أفضَلُ منَ الآخَرِ؟ فلمْ يُجِبْه الشَّيخانِ، أي: أنَّ عَليًّا وعُثمانَ لم يُرجِّحْ أحَدُهما الآخَرَ للخِلافةِ، فطلَبَ منهمُ ابنُ عَوفٍ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَجْعَلوا الأمرَ إليه، على ألَّا يَحيدَ عنِ الحقِّ في اخْتيارِ أفْضَلِهما، فوافَقاه، فأخَذَ بيَدِ عَلِيٍّ وانفَرَدَ به عن عُثمانَ، وذكَّرَه بقَرابتِه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَدَمِه في الإسْلامِ، ثمَّ أخَذ عليه العَهدَ: لَئنْ أمَّرتُكَ لتَعدِلَنَّ، ولئنْ أمَّرتُ عُثمانَ لتَسمَعَنَّ ولتُطيعَنَّ، ثمَّ فعَل معَ عُثمانَ مِثلَ الَّذي فعَل معَ عَلِيٍّ، فلمَّا أخَذ عبدُ الرَّحمنِ منهما الميثاقَ والعَهدَ، قال: ارفَعْ يدَكَ يا عُثمانُ، فبايَعَه، ثمَّ دخَلَ أهلُ الدَّارِ فبايَعوه، والمُرادُ بـ«أهلِ الدَّارِ»: أهلُ المَدينةِ، وتمَّتِ البَيعةُ بالخِلافةِ لعُثمانَ بنِ عفَّانَ رَضيَ اللهُ تعالَى عنه.
وفي الحَديثِ: فَضلُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ تعالى عنه، وعَظيمُ شَفَقتِه على المُسلِمينَ، وعَدْلُه بيْنَ النَّاسِ جَميعًا.
وفيه: أنَّ الإمامَ والحاكِمَ مُسْتأمَنٌ على رَعيَّتِه، وعليه أنْ يَسألَ، ويَتَحرَّى عن أحْوالِهم، ولا يَظلِمَهم.
وفيه: الأخذُ بأسبابِ العِلاجِ، والاستِشْفاءُ.
وفيه: أنَّ الشُّورى بينَ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ في المُلِمَّاتِ سَبيلٌ للخُروجِ منها.
وفيه: أنَّ لأهلِ الذِّمَّةِ حُقوقًا، يَجِبُ على إمامِ المُسلِمينَ رِعايَتُها، والمُحافَظةُ عليها، وأنَّ لهم عَهدًا وذِمَّةً يَجِبُ الوَفاءُ بها.