باب كيف السلام
سنن الترمذى
حدثنا سويد قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا سليمان بن المغيرة قال: حدثنا ثابت البناني قال: حدثنا ابن أبي ليلى، عن المقداد بن الأسود، قال: أقبلت أنا وصاحبان لي قد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فليس أحد يقبلنا، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى بنا أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «احتلبوا هذا اللبن بيننا»، فكنا نحتلبه، فيشرب كل إنسان نصيبه، ونرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه، فيجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فيسلم تسليما، لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان، ثم يأتي المسجد فيصلي ثم يأتي شرابه فيشربه: «هذا حديث حسن صحيح»
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأكُلُ مِن الطَّعامِ ما رَزَقه اللهُ به، ويَرْضى بالقليلِ، ويَتواضَعُ في أكلِه وهَيئتِه، تَضرُّعًا للهِ ورِضًا بما رَزَقَه به، ويَحمَدُه سُبحانه على نِعَمِه، وتَعليمًا لأُمَّتِه خُلقَي الرِّضا والقَناعةِ، وكان في أوَّلِ الهجرةِ إلى المدينةِ يَجمَعُ فُقراءَ المهاجِرِين في مَكانٍ في المسجدِ النَّبويِّ يُطعِمُهم ممَّا يُهْدى إليه ويَأكُلُ معهم.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي المِقدادُ بنُ عَمْرٍو رَضيَ اللهُ عنه أنَّه أقبلَ هو وصَاحبانِ له إلى أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد ضعفت أَسماعُهم وأَبصارُهم حتَّى قَاربَتِ الذَّهابِ مِنَ الجوعِ والمشقَّةِ، فَجعَلُوا يَعرِضُونَ أنفسَهم على أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُطعِمُوهم؛ وذلك لِشدَّةِ ما كانوا عليه مِنَ الجوعِ والضَّعفِ، ولكنْ لم يُطعِمُهم أحدٌ، ولعلَّ ذلك؛ لأنَّهم ما وَجدُوا شيئًا يُطعِمونَهم إيَّاه، فَذَهبوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليُطعِمَهم، فصَحِبَهم وذَهبَ بهم إلى مَنازلِ أهْلِه، فإذا ثلاثةُ أَعْنُزٍ مَوجودةٌ، جمْعُ عَنزةٍ، وهي: الماعزُ، فأمَرَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَحلُبَوها ويَقسِموا ألْبانَها على أربعٍ، وفيهم نَصيبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَكانوا يَحتلِبُونَ مِن تلك الماعزِ حاجتَهم، فَيَشربُ كلُّ إنسانٍ منهم نَصيبَه، ويُبْقون لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَصيبَه وقِسمتَه مِن هذا اللَّبنِ.
ويَحكي المِقْدادُ رَضيَ اللهُ عنه عادةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في لَيلتِه، وهو أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان يَجِيءُ في اللَّيلِ ويَدخُلُ عليهم، فيُلْقي عليهم السَّلامَ بِصوْتٍ مُعتدلٍ، لا يُوقِظُ به النَّائمَ حتَّى لا يَقطَعَ عليه نَوْمَه، ويُسمِعُ به اليقظانَ؛ ليَرُدَّ عليه السَّلامَ، ثُمَّ يَذهَبُ إلى المسجدِ، والمرادُ به: مَوضعُ مُصلَّاهُ، فَيُصلِّي مِن قِيامِ اللَّيلِ أو تَحيَّةِ المسجِدِ، ثُمَّ يأتِي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَرابَه مِنَ اللَّبنِ فيَشرَبُه.
ويُخبِرُ المِقدادُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه ذاتَ مرَّةٍ أتاهُ الشَّيطانُ بعدَ أنْ شَرِبَ نَصيبَه مِن اللَّبنِ المَقسومِ، وحَفِظوا لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَصيبَه، فوَسْوَسَ له بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأتي الأنصارَ -وهُم أهلُ المدينةِ- ويَذهَبُ إلى بُيوتِهم بعْدَ العشاءِ، «فَيُتْحِفُونَه» أي: يُعطونَه الهديَّةَ، والمرادُ بها هنا الطَّعامُ، ويُصيبُ عندَهم، فيَشرَبُ ويَطعَمُ وليْس به حاجةٌ إلى هذه «الجَرعةِ»، أي: الشَّرْبةِ القليلةِ مِنَ اللَّبنِ، وعلى أثَرِ تلك الوَسْوسةِ، شَرِبَ المِقدادُ نَصيبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن اللَّبَنِ، فَلمَّا أنْ «وَغَلَتْ في بَطنِي»، أي: دخلَتْ فيه وتمكَّنَتْ منه، وعلِمْتُ أنَّه ليْس إليها سبيلٌ، أي: لا يُمكِنُ الرُّجوعُ فيما فَعَلْتُ واقتَرَفْتُ في حقِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، نَدَّمَنِي الشَّيطانُ، أي: جَعلَنِي نادمًا على شُربِ تلك الجَرعةِ وليْس ذلك لِيَتوبَ، وإنَّما ليُوقِعَه في ذُنوبٍ أكبَرَ، فقال له الشَّيطانُ: «وَيحَكَ!» والوَيْحُ الزَّجْرُ لِمَنْ أشرفَ على الهلكةِ، «ما صنعْتَ؟» إنكارٌ وتَوبيخٌ، «أَشرِبْتَ شرابَ محمَّدٍ؟» ونَصيبَه مِن اللَّبَنِ «فَيَجيءُ فلا يَجِدُه فَيدعو عليكَ فَتَهلِكُ» أي: فتكونُ ممَّن خَسِر الدُّنيا والآخرةِ، وكان على المِقدادِ رَضيَ اللهُ عنه «شَملَةٌ» وهي كِساءٌ صغيرٌ يَلتحِفُ به، وكانت هذه الشَّملةُ إذا وَضَعها على قدَمِه ظهَرَت رأسُه ، وإذا وَضَعها على رأسِه ظَهَرت قَدمَاه، وهذا دَليلٌ على صغَرِها، قال المِقدادُ رَضيَ اللهُ عنه: «وجَعلَ لا يَجيئُني النَّومُ» أي: ذَهَب مِن عَينِه النَّومُ؛ وذلك لِما أصابَه مِن الغَمِّ والهمِّ على ما فَعَل، «وأمَّا صَاحِبايَ فَنامَا ولم يَصنَعَا ما صنعْتُ»؛ إذ لم يَشرَبَا نَصِيبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولم يَشترِكا معه في فِعلتِه.
قال المِقدادُ رَضيَ اللهُ عنه: «فجاءَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَسلَّمَ كما كان يُسلِّمُ» بِصَوتٍ مُعتدلٍ، ثُمَّ أتى المسجدَ فصَلَّى ما قُدِّر له مِن صَلاةِ اللَّيلِ، ثُمَّ أتى شَرابَه فَكشَفَ، ورَفَعَ عنه الغِطاءَ؛ فلمْ يَجِدْ فيه شيئًا مِن اللَّبَنِ، فَرفعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأسَه إلى السَّماءِ يَدْعو اللهَ، فقال المقدادُ رَضيَ اللهُ عنه في نفْسِه: «الآنَ يَدعو علَيَّ فَأهلِكُ» بدُعائِه، فَدعا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقال في دُعائهِ: «اللَّهمَّ أَطعِمْ مَن أطعَمَنِي، واسْقِ مَن سَقانِي» فَلم يَسألْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَن نَصيبِه، ولم يُعرِّجْ على كلِّ ذلك، لكنَّه دعا اللهَ تَعالَى، ولَمَّا فَهِمَ المقدادُ رَضيَ اللهُ عنه منه الدُّعاءَ عَرَفَ أنَّ اللهَ يُجيبُه ولا يردُّ دعوَتَه لا سِيَّما عند شدَّةِ الحاجةِ والفاقةِ، فقامَ لِينظُرَ له شيئًا تكونُ به إجابةُ دعوتِهِ؛ يُريدُ أنْ يُطعِمَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أو يَسقِيَه، فشَدَّ ورَبَط عليه شَمْلتَه، وأخَذَ «الشَّفرةَ» وهي السِّكِّينُ، وذَهبَ إلى الأعنُزِ الثَّلاثِ فنَظَر أَيُّها أَسمَنُ فَيَذبحَها لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليُطعِمَه، فَوجدَ الأعنُزَ «حُفَّلًا»، أي: مُمتلِئَةَ الضُّروعَ بِاللَّبنِ، وذلك ببَرَكةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فتَوجَّهَ إلى إناءٍ لآلِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما كانوا يَطْمعونَ، ولا يَرْجون أنْ يَحتَلبُوا فيه لحَجْمِه وكِبَرِه مع قِلَّةِ اللَّبَنِ عندهم، قال المِقدادُ رَضيَ اللهُ عنه: «فَحلبْتُ فيه حتَّى علَتْهُ رَغوةٌ» وهو ما يَعلو اللَّبَنَ عند الصَّبِّ والحلْبِ، وجاء به إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَسألَني: «أَشرَبْتُم شَرابَكمُ اللَّيلةَ؟» فقال المِقدادُ رَضيَ اللهُ عنه -وذلك بعْدَ أنْ جاوبَهَ بنَعَم-: «يا رسولَ اللهِ، اشرَبْ، فَشرِبَ ثُمَّ نَاولنِي»، وأعطاني الإناءَ، فقال المِقدادُ رَضيَ اللهُ عنه مرَّةً أُخرى: «يا رسولَ اللهِ اشربْ، فَشرِبَ ثُمَّ نَاولَني» وأعْطاني الفاضلَ «فَلمَّا عرفْتُ» وتَيقَّنْتُ «أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قد رَوِيَ مِن عطَشِه، وأصبْتُ دَعوتَه، ضحِكتُ حتَّى أَلقيْتُ نَفْسي إلى الأرضِ مِن شِدَّةِ الفَرحِ بها» وسَببُ ضَحِكِه وسُرورِه وزَوالِ حُزنِه: أنَّه لَمَّا عَلِم أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ شَرِب حتَّى ارْتَوى، وكان قبْلَ ذلك دَعا لِمَن سَقاه بقولِه: «اللَّهُمَّ أطْعِمْ مَن أطْعَمَني، وأسْقِ مَن أسْقاني»؛ تَبيَّن للمِقدادِ أنَّه صار مُعرَّضًا لدُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ له لا عليه، ففَرِح بذلك وضَحِكَ؛ لانقلابِ ما كان يَخافُه إلى ما يَسُرُّه، ولظُهورِ مُعجزةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ يَدَيه، ولَمَّا رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منه ذلك، فَهِم أنَّ هناك أمرًا ما عندَ المِقدادِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إحدى سَوآتِكَ يا مِقدادُ» أي: إنَّكَ يا مِقدادُ -لا مَحالةَ- فعَلْتَ فَعلةً سَيِّئةً، فما هي؟ فَأخبَرَ المقدادُ رَضيَ اللهُ عنه رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما كان مِن أمْرِه وفِعلِه، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ما هذه إلَّا رحمةٌ مِنَ اللهِ» أي: إحداثُ هذا اللَّبَنِ في غيرِ وَقتِه وخِلافَ عادتِه، مِن رَحمةِ اللهِ تَعالَى وبَرَكتِه؛ وذلك اعترافًا منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِفضْلِ الله تَعالَى، وشكرًا لِنعمَتِه، وإقرارًا بِمنَّتِه، ثمَّ بَيَّن له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه كان عليه أنْ يُخبِرَه بما حَدَث قبْلَ أنْ يَنفَدَ اللَّبَنُ، حتَّى نُوقِظَ صَاحبَيْنَا فَيُصِيبا مِن ذلك اللَّبنِ، ويَشْرَبا مَعنا، فقال المقدادُ رَضيَ اللهُ عنه: «والَّذي بَعثكَ بِالحقِّ ما أُبالي» أي: ما أَهتمُّ إذا أَصبْتَها، فشَرِبْتَها أنتَ «وأَصبْتُها معكَ» فلا أُبالي «مَن أصابَها مِنَ النَّاسِ» ومَن لم يَشْرَبْها بعْدَ أنْ حصَلْتُ على دَعوتِكَ، فأطْعَمْتُك وسَقَيْتُكَ، والمعنى: أنَّ الفَرحةَ كلَّ الفرحةِ أنَّكَ شَرِبتْ منها يا رسولَ اللهِ، فلا يَسُرُّني مَن شَرِبَها، ولا يُحزِنُني مَن لم يَشْرَبْها.
وفي الحديثِ: دليل من دَلائل نبوته صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ مِن هدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السَّلامَ عند الدُّخولِ على الغيرِ.
وفيه: كرَمُ أخلاقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ونَزاهةُ نفْسِه.
وفيه: فضْلُ الْمِقدادِ بنِ عَمْرٍو رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: بَيانُ ما كان عليه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنه في أوَّلِ الأمرِ مِن الفقرِ، وضِيقِ العَيشِ.
وفيه: مُراعاةُ حالِ النَّائمِ.
وفيه: بَيانُ ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الحِلمِ، والأخلاقِ العَلِيَّةِ، والمحاسِنِ المَرضيَّةِ، وكَرَمِ النَّفْسِ، والصَّبرِ.