باب ما جاء في ذكر ابن صياد1
سنن الترمذى
حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا عبد الأعلى، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: صحبني ابن صائد إما حجاجا وإما معتمرين فانطلق الناس وتركت أنا وهو، فلما خلصت به اقشعررت منه واستوحشت منه مما يقول الناس فيه، فلما نزلت قلت له: ضع متاعك حيث تلك الشجرة، قال: فأبصر غنما فأخذ القدح فانطلق فاستحلب، ثم أتاني بلبن فقال لي: يا أبا سعيد، اشرب، فكرهت أن أشرب من يده شيئا لما يقول الناس فيه، فقلت له: هذا اليوم يوم صائف وإني أكره فيه اللبن، قال لي: يا أبا سعيد، هممت أن آخذ حبلا فأوثقه إلى شجرة ثم أختنق لما يقول الناس لي وفي، أرأيت من خفي عليه حديثي فلن يخفى عليكم؟ ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه كافر» وأنا مسلم؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه عقيم لا يولد له» وقد خلفت ولدي بالمدينة؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل له مكة والمدينة»؟ ألست من أهل المدينة وهو ذا أنطلق معك إلى مكة، فوالله ما زال يجيء بهذا حتى قلت فلعله مكذوب عليه، ثم قال: يا أبا سعيد، والله لأخبرنك خبرا حقا، والله إني لأعرفه وأعرف والده وأعرف أين هو الساعة من الأرض، فقلت: تبا لك سائر اليوم: هذا حديث حسن
كان في المدينةِ غُلامٌ يُقالُ له: ابنُ صيَّادٍ، واسمُه: صافي، وقيل: عبدُ اللهِ، مِن يَهودِ المدينةِ، وقيل: مِن الأنصارِ، وقدْ شاع بيْنَ النَّاسِ أنَّه هو الدَّجَّالُ -الَّذي يَخرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ، وهو مِن عَلاماتِ السَّاعةِ الكُبرى- لِما به مِن صِفاتٍ تُشابِهُ الَّتي في الدَّجَّالِ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه خَرَج مع جَماعةٍ مِن النَّاسِ مِن المدينةِ يُريدونَ الحجَّ أو العمرةَ، وكان معهم ابنُ صَائِدٍ، وفي طَريقِ سَفرِهم نَزَلوا للرَّاحةِ، «فتفرَّق النَّاسُ»، أي: ذَهَبوا في نَواحي المكانِ وأخَذَ كلُّ واحدٍ ظِلًّا له ليَستريحَ تحْتَه، وبَقِي أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه مع ابنِ صائدٍ وَحْدَهما، قال أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: «فاسْتَوْحَشْتُ منه وَحْشَةً شَدِيدَةً» أي: أنَّه نَفَر منه ولم يَأنَسْ بِوُجودِه إطلاقًا؛ وذلك بِسَبَبِ ما يُقالُ عنه: أنَّه الدَّجَّالُ الَّذي يَخرُجُ آخِرَ الزَّمانِ.
وجاء ابنُ صَائِدٍ، فوضَعَ مَتَاعِه بقُربِ مَتاعِ أبي سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه، والمَتاعُ: كلُّ مَا يُنتَفَعُ به مِن الحاجاتِ، كالطَّعامِ واللِّبَاسِ، فقال أبو سَعِيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: «إنَّ الحَرَّ شَدِيدٌ، فلو وَضَعْتَه تحتَ تلك الشَّجرةِ». ففَعَل ابنُ صيَّادٍ ووَضَع مَتاعَه تحْتَ الشَّجرةِ بعيدًا عن أبي سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه، ثمَّ ظَهَرت غَنَمٌ أمامهم في هذه الصَّحراءِ، والظَّاهرُ أنَّ عادةَ أصحابِها أنَّهم كانوا يَأْذَنُون لابنِ السَّبيلِ أنْ يَحلُبَ غَنَمَهم، ويَشرَبَ، فانْطَلَق ابنُ صيَّادٍ إلى تلك الغنَمِ، فجاء «بِعُسٍّ» وهو القَدَحُ الكَبِيرُ فيه لَبنٌ مِن هذه الأغنامِ، وعَرَض على أبي سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه الشُّربَ مِن هذا اللَّبنِ، فقال أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: «إنَّ الحَرَّ شَديدٌ، واللَّبَنُ حَارٌّ» أي: إنَّ شُربَ اللَّبنِ ممَّا يَزيدُ حَرارةَ الجسمِ، «ما بي إلَّا أنِّي أَكْرَهُ أنْ أشْرَبَ عن يَدِه» أي: إنَّ ما قالَه له كان اعتذرًا على غيرِ الحقيقةِ، والحقيقةُ أنَّه رفَضَ لأجلِ أنَّه كَرِه أنْ يَأخُذَ هذا اللَّبنَ مِن يَدِه.
ثمَّ تابَعَ ابنُ صائدٍ حَديثَه مع أبي سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه، فقال: «يا أبا سَعِيدٍ، لقَدْ هَمَمْتُ أنْ آخُذَ حَبْلًا فأُعَلِّقَه بشَجَرةٍ، ثُمَّ أخْتَنِقَ» يُقصِدُ أنَّه يُريدُ أنْ يَقتُلَ نفْسَه؛ لأجْلِ ما يَتوهَّمُه النَّاسِ فيه أنَّه الدَّجَّالُ، وكأنَّه فَهِم مِن اعتذارِ أبي سَعيدٍ له عن شُربِ اللَّبَنِ تَبعًا لِما يقولُه عنه النَّاسُ، فذَكَر لأبي سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه في ضِيقٍ شَديدٍ ممَّا يقولُه النَّاسُ فيه، ثمَّ جَعَل ابنُ صائدٍ يُقارِنُ بيْنَ أوصافهِ وأوصافِ الدَّجَّالِ الَّتي أخبَرَ بها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ الأنصارَ -وهُم أهلُ المدينةِ- أعلَمُ النَّاسِ بحَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأنَّه لا يَخْفى عليهم مِثلُ تلكَ الأحاديثِ الَّتي تُمايِزُ بيْنه وبيْنَ الدَّجَّالِ، ثمَّ أخبَرَ: «أَلَيْسَ قدْ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ» في شأنِ الدَّجَّالِ: هو كَافِرٌ، وأنا مُسلِمٌ، وهو عَقِيمٌ لا يُولَدُ له، أمَّا أنا فـقدْ وُلِد لي ولدٌ، وقدْ تَرَكَ أهْلَه بالمَدِينةِ حالَ خُروجِه للحجِّ، وأنَّ الدَّجَّالَ لا يَدخُلُ المَدِينةَ ولا مَكَّةَ، وأمَّا أنا فقدْ أقْبَلْتُ معكم مِنَ المَدِينةِ حيث أُقِيمُ وأنا أُرِيدُ التَّوجُّهَ معكم إلى مَكَّةَ فأدْخُلُها للحجِّ أو للعُمرةِ، فأوصافُ الدَّجَّالِ مُنتفِيةٌ عنِّي، قال أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رَضيَ اللهُ عنه: «حتَّى كِدْتُ أنْ أَعْذِرَه» أي بأحاديثِه تلكَ كاد أنْ يُصدِّقَه ويَقبَلَ عُذْرَه عمَّا يقولُ فيه النَّاسِ، وليْس هناك شُبهةٌ بيْنه وبيْنَ الدَّجَّالِ، إلَّا أنَّ ابنَ صيَّادٍ عَقَّب كَلامِه بقولِه عن الدَّجَّالِ: «أمَا، واللهِ إنِّي لَأَعْرِفُه وأعْرِفُ مَولِدَهُ وأيْنَ هو الآنَ» أي: مكانَه ومَوضِعَه الآنَ، فقال له أبو سَعِيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: «تَبًّا لك» أي: خُسْرَانًا وهَلَاكًا «سَائِرَ اليومِ» في باقي اليومِ، أو خَسارًا لكَ دائمًا؛ لأنَّ اليومَ قدْ يُرادُ به الزَّمانُ. وإنَّما قال له أبو سَعيدٍ رَضيَ اللهُ عنه ذلكَ؛ لأنَّه كاد أنْ يُصدِّقَه ويَعذِرَه بعْدَ هذه الأدلَّةِ الَّتي قالَها، لكنَّه لَمَّا عاد إلى الحديثِ عن مَعرفةِ الدَّجَّالِ ومَكانِ وِلادتِه ومَكانِه الحاليِّ؛ أثارَ في نَفسِه الشَّكَّ مرَّةً أُخرى.
وقِصَّةُ ابنِ صَيادٍ مُشكِلةٌ وأمْرُه مُشتبِهٌ، والأقرَبُ أنَّه دجَّالٌ مِن الدَّجاجلةِ الكذَّابينَ، ولكنَّه غيرُ المسيحِ الدَّجَّالِ، وقدْ وافقَتْ صِفةُ ابنِ صَيَّادٍ بعضَ ما في الدَّجَّالِ، وكان فيه قِرائنُ مُحتمَلَةٌ، ولعلَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان مُتوقِّفًا في أمْرِه حتَّى جاءَه الأمرُ مِن اللهِ تَعالَى أنَّه غيرُ الدَّجَّالِ الأكبرِ، كما في قِصَّة الجسَّاسةِ الَّتي رَواها مُسلمٌ عن تَميمٍ الدَّاريِّ رَضيَ اللهُ عنه، وفيها أنَّهم رَأَوا الدَّجَّال مُقيَّدًا وسَأَلَهم عن نَبيِّ الأُميِّين: هل بُعِثَ؟ وأنَّه قال: إنْ يُطيعوه فهو خيرٌ لهم، وغيرُ ذلك، وفيه: أنَّه قال: إنِّي مُخبِرُكُم عنِّي؛ أنا المسيحُ، وإنِّي أُوشِكَ أنْ يُؤذَنَ لي في الخُروجِ فأخْرُجَ... الحديثَ.
والدَّجَّالُ مِن الدَّجلِ، وهو التَّغطيةُ، سُمِّي به؛ لأنَّه يُغطِّي الحَقَّ بباطِلِه، وهو شَخصٌ مِن بني آدَمَ، يَدَّعي الأُلوهيَّةَ، وظُهورُه مِن العلاماتِ الكُبرى ليَومِ القِيامةِ، يَبتَلي اللهُ به عِبادَه، وأَقْدَره على أشياءَ مِن مَقدوراتِ اللهِ تَعالَى؛ مِن إحياءِ الميِّتِ الَّذي يَقتُلُه، ومِن ظُهورِ زَهرةِ الدُّنيا والخِصْبِ معه، وجَنَّتِه ونارِه، ونَهْرَيْهِ، واتِّباعِ كُنوزِ الأرضِ له، وأمْرِه السَّماءَ أنْ تُمطِرَ فتُمطِرَ، والأرضَ أنْ تُنبِتَ فتُنبِتَ؛ فيَقَعُ كلُّ ذلك بقُدرةِ اللهِ تَعالَى ومَشيئتِه.
وفي الحديثِ: بيانُ حالِ ابنِ صَيَّادٍ.
وفيه: مَوْقِفُ الصَّحابةِ مِن ابنِ صَيَّادٍ.
وفيه: قُربُ زَمنِ ظُهورِ الدَّجَّالِ.