باب ما جاء في صيام داود عليه السلام 2
سنن ابن ماجه
حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا غيلان بن جرير، عن عبد الله بن معبد الزماني
عن أبي قتادة، قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما؟ قال: ويطيق ذلك أحد؟ قال: يا رسول الله، كيف بمن يصوم يوما ويفطر يوما؟ قال: "ذلك صوم داود" قال: كيف بمن يصوم يوما ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طوقت ذلك" (2).
جاء الشَّرعُ الحنيفُ بالتَّيسيرِ على النَّاسِ، وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُحِبُّ للمُسلِمِ أن يَفعَلَ مِن الأعمالِ ما يُطيقُها ويُداوِمُ عليها.
وهذا الحديثُ جزءٌ مِن روايةٍ أطوَلَ مِنه كما في صَحيحِ مُسلِمٍ، وفيه: رجلٌ أتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فقال: كيف تَصومُ؟ فغَضِب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فلمَّا رأى عُمرُ رَضِي اللهُ عنه غضَبَه، قال: رَضِينا باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمَّدٍ نبيًّا، نَعوذُ باللهِ مِن غضَبِ اللهِ وغضَبِ رَسولِه، فجعَل عمرُ رَضِي اللهُ عنه يُردِّدُ هذا الكلامَ حتَّى سكَن غضَبُه، فقال عمرُ: يا رسولَ اللهِ، كيف بمَن يَصومُ الدَّهرَ كلَّه؟ قال: "لا صامَ ولا أفطَر"- أو قال- "لم يَصُمْ ولم يُفطِرْ"... الحديثَ، وفي هذه الرِّوايةِ: فقال عمرُ رَضِي اللهُ عنه: "يا رسولَ اللهِ، كيف بمَن يَصومُ يومَين، ويُفطِرُ يومًا؟"، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ومَن يُطيقُ ذلك؟!"، أيْ: يَقْوى ويُتابِعُ الصِّيامَ عليه ويَقومُ بما عليه مِن واجباتٍ أخرى في يومِه، وكأنَّه كَرِهه لأنَّه ممَّا يُعجَزُ عنه في الغالِبِ، فلا يُرغَبُ فيه في دِينٍ سَهلٍ سَمحٍ"، فقال عمرُ رَضِي اللهُ عنه: "يا رسولَ اللهِ،كيف بمَن يَصومُ يومًا ويُفطِرُ يومًا؟"، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ذلك صومُ داودَ"، وهذا كِنايةٌ عن ترغيبِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم فيه، وهو مِن أحَبِّ الصِّيامِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، كما جاء في الصَّحيحَينِ عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِي اللهُ عنهما: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال له: أحَبُّ الصَّلاةِ إلى اللهِ صلاةُ داودَ عليه السَّلامُ، وأحَبُّ الصِّيامِ إلى اللهِ صيامُ داودَ، وكان يَنامُ نِصْفَ اللَّيلِ ويَقومُ ثُلُثَه، ويَنامُ سُدُسَه، ويَصومُ يومًا، ويُفطِرُ يومًا"، وذلك أنَّه ليس صومًا مُستمِرًّا ولا إفطارًا مُستمِرًّا؛ فقال عمرُ رَضِي اللهُ عنه: "كيف بمَن يَصومُ يومًا ويُفطِرُ يومَين؟"، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وَدِدتُ أنِّي طُوِّقتُ ذلك"، قيل: إنَّ هذا التَّمنِّيَ لغَيرِه مِن أمَّتِه؛ فقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يُطيقُه ويُطيقُ أكثَرَ منه؛ فقد ثبَت عنه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم الوِصالُ في الصَّومِ، وقيل: مَعناه أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم لانشِغالِه بأهلِه وضُيوفِه، وبأعمالِه وبالنَّاسِ يَجعَلُه لا يَصومُ هذا المقدارَ باستمرارٍ. وفي روايةِ مُسلِمٍ: ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "ثَلاثٌ مِن كلِّ شهرٍ، ورمَضانُ إلى رمضانَ، فهذا صِيامُ الدَّهرِ كُلِّه، صِيامُ يومِ عرَفةَ، أحتَسِبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السَّنةَ الَّتي قبْلَه، والسَّنةَ الَّتي بَعدَه، وصِيامُ يومِ عاشوراءَ، أحتَسِبُ على اللهِ أن يُكفِّرَ السَّنةَ الَّتي قبْلَه".
وهذه الأسئلةُ مِن عُمرَ تَدُلُّ على فِقهِه؛ فقد هَدَّأ مِن غضَبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أوَّلًا كما جاءَ في روايةِ مُسلِمٍ، ثمَّ سأَله عن أنواعٍ مِن الصِّيامِ تَشمَلُ كلَّ ما يُمكِنُ أن يَصومَه المسلِمُ وعرَفَ أحكامَها، مع بَيانِ ما يَصِحُّ منها وما لا يَصِحُّ، وبيانِ فَضلِ بَعضِها، فعلَّمَنا كلَّ ذلك، فمَن شاء صامَ ما يَصِحُّ، ويَختارُ ما هو أوفَقُ لنَفسِه وقُدرتِه.
وفي الحديثِ: الزَّجرُ عن التَّشديدِ على النَّفسِ في العِباداتِ بما لا تُطيقُ.