باب ما جاء في صيام داود عليه السلام 1
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو إسحاق الشافعي إبراهيم بن محمد بن العباس، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت عمرو بن أوس قال:
سمعت عبد الله بن عمرو يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان (2) يصوم يوما ويفطر يوما، وأحبالصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويصلي ثلثه وينام سدسه" (1).
الإقبالُ على اللهِ عزَّ وجلَّ بالعمَلِ الصالحِ، والاجتِهادِ في العِبادةِ باللَّيلِ والنَّهارِ؛ سَمْتُ الصالحينَ الأبرارِ، وقد وجَّهَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه لأخْذِ النَّفْسِ بما تُطيقُ، وكان أنبياءُ اللهِ همُ القُدوةَ في هذا الشَّأنِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأفضلِ كَيفيَّةٍ في قِيامِ اللَّيلِ وصَومِ النَّافلةِ، وهما قِيامُ نَبيِّ اللهِ داودَ عليه السَّلامُ وصَومُه؛ فأمَّا قِيامُه فكان يَنامُ نصْفَ اللَّيلِ الأوَّلَ، ثمَّ يَقومُ ثُلثَ اللَّيلِ، ثمَّ يَنامُ سُدسَه الأخيرَ، وأمَّا صِيامُه فكان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يومًا، فهذا أكثَرُ ما يكونُ القِيامُ والصِّيامُ مَحبوبًا للهِ عزَّ وجلَّ، ومِن ثَمَّ يَنالُ صاحبُه عليه أعْلى الدَّرجاتِ، وإنَّما صارتْ هذه الطَّريقةُ أحَبَّ إلى اللهِ مِن أجْلِ الأخذِ بالرِّفقِ على النُّفوسِ الَّتي يُخشَى منها السَّآمةُ والملَلُ الَّذي هو سَببٌ إلى تَرْكِ العِبادةِ، واللهُ يُحِبُّ أنْ يُديمَ فضْلَه، ويُواليَ إحسانَه أبدًا، وإنَّما كان ذلك أرفَقَ؛ لأنَّ النَّومَ بعدَ القِيامِ يُريحُ البدَنَ، ويُذهِبُ ضرَرَ السَّهرِ وذُبولَ الجِسمِ، بخِلافِ السَّهرِ إلى الصَّباحِ، وفيه مِن المصلحةِ أيضًا: استِقبالُ صَلاةِ الصُّبحِ وأذكارِ النَّهارِ بنَشاطٍ وإقبالٍ، وأنَّه أقرَبُ إلى عدَمِ الرِّياءِ؛ لأنَّ مَن نام السُّدسَ الأخيرَ أصبَح ظاهرَ اللَّونِ، سَليمَ القُوى؛ فهو أقربُ إلى أنْ يُخفيَ عمَلَه الماضيَ على مَن يَراهُ.
وصِيامُ يَومٍ وإفطارُ يَومٍ أفضَلُ مِن صِيامِ الدَّهرِ كلِّهِ؛ إذْ بصِيامِ الدَّهرِ يَضعُفُ البَدَنُ، ويَقصُرُ المُسلِمُ عن أداءِ الحُقوقِ لأصْحابِها، ومِن جِهةٍ أُخرى فإنَّ سَرْدَ الصِّيامِ طَوالَ العامِ تَألَفُه النَّفْسُ وتَعْتادُه، فيَفقِدُ الصِّيامُ أثَرَهُ في تَهْذيبِ نفْسِ الصَّائمِ، أمَّا إعْطاءُ النَّفْسِ يومًا وحِرمانُها آخَرَ، فهو أشدُّ عليها وأقْوى في تَهْذيبِها، وبذلِكَ يكونُ الصَّومُ أنفَعَ لصاحِبِه، وأحَبَّ إلى اللهِ تعالَى. وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ بيَّنَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السَّبَبَ في تَفضيلِ صِيامِ نَبيِّ اللهِ داودَ على غَيرِه، فقالَ: «كان يَصومُ يَومًا ويُفطِرُ يَومًا، ولا يَفِرُّ إذا لاقَى»، فلا يَفِرُّ مِن العَدوِّ إذا لَقِيَه في الحربِ؛ لقُوَّةِ نفْسِه بما أبقَى فيها في غَيرِ إنهاكٍ وإضعافٍ لها بصَومٍ.
وفي الحديثِ: الاقتداءُ بالأنبياءِ قبْلَ نبيِّنا مُحمَّدٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ في العِباداتِ.
وفيه: الحَثُّ على قِيامِ اللَّيلِ، وصِيامِ التَّطوُّعِ.
وفيه: أنَّ صَومَ يَومٍ وفِطرَ يَومٍ أحَبُّ إلى اللهِ تعالَى مِن غَيرِه، وإنْ كان أكثَرَ منه.