باب: نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث
سنن النسائي
حدثنا زكريا بن يحيى، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: 106] وقال: {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل} [النحل: 101] الآية، وقال: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} [الرعد: 39] «فأول ما نسخ من القرآن القبلة»، وقال: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} [البقرة: 228]- إلى قوله - {إن أرادوا إصلاحا} [البقرة: 228] «وذلك بأن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك»، وقال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]
كان ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما مِن عُلماءِ الصَّحابةِ الأجلَّاءِ رغمَ صِغَرِ سِنِّه؛ فقدْ دعا له النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالعِلمِ والفِقهِ في الدِّينِ؛ فاستجابَ اللهُ سُبحانَه وتعالى له، فكان مِن آثارِ تلك الدَّعوةِ أنْ سُمِّيَ الحَبْرَ؛ لسَعةِ عِلمِه
وفي هذا الحديثِ يقولُ ابنُ عبَّاسٍ في قولِه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106]: النَّسخُ هو الإزالةُ والمَحْوُ، والمقصودُ مِن الآيةِ: ما نَمْحُو ونُزيلُ حُكْمَ آيةٍ، والنَّسخُ أنواعٌ، إمَّا أن يُنسَخَ الحُكمُ والتِّلاوةُ، وإمَّا أن يُرفَعَ حُكمُ الآيةِ ويَبقى لفظُها، وإمَّا أنْ يَبقى حُكمُها ويُرفَعَ لفظُها، وهو ما يُعرَفُ بنَسْخِ التِّلاوةِ، {أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]، أي: نَمْحُها مِن الصُّدورِ ويَرتفِعْ حِفظُها، وقيل: نَنْسَأْها، أي: نُؤخِّرْها فلا تُنسَخُ، {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، أي: إلَّا أتَيْنا بما هو خيرٌ منها؛ وذلك لمصلحةِ النَّاسِ، وما يكونُ فيه نفعٌ للعبادِ، وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101]، أي: أزَلْنا تلاوةَ آيةٍ، وأثبَتْنا مكانَها آيةً أخرى، أو محَوْنا حُكْمَ آيةٍ بحُكْمِ آيةٍ غيرِها، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101]، أي: إنَّ ما حصَل مِن تَبديلٍ هو لحِكمةٍ لا يَعلَمُها إلَّا اللهُ سبحانه وتعالى، وقولُه تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، أي: إنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يُزيلُ مِن الأحكامِ ما يَشاءُ بمَحْوِها، ويُبقِي على غيرِها، وقيل: المرادُ مِن المَحْوِ والإثباتِ هو ما يَكتُبُ الملائكةُ المُوكَّلونَ بحِفظِ أعمالِ بني آدَمَ وكتابتِها، فيأمُرُ اللهُ الملائكةَ الحفظَةَ بمَحْوِ ما لا ثوابَ فيه ولا عقابَ، أو مَحْوِ السَّيِّئاتِ الَّتي تاب العبدُ منها، وتَبديلِها حَسَناتٍ، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]؛ أي: اللَّوحُ المحفوظُ
ثمَّ ذَكَر ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنهما بعضَ أمثلةِ النَّسْخِ، فقال: "فأوَّلُ ما نُسِخَ مِن القُرآنِ القِبلةُ"، أي: نُسِخَ استقبالُ بيتِ المقدِسِ باستِقبالِ الكَعبةِ في الصَّلاةِ؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أوَّلَ ما هاجَرَ إلى المدينةِ كانَتِ القِبلةُ في الصَّلاةِ ناحيةَ بيتِ المقدِسِ، وكانَتْ هي قِبلةَ اليهودِ، فكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يَرغَبُ في أن تكونَ قِبلتُه إلى بَيتِ اللهِ الحرامِ، الكَعْبةِ، فاستجاب اللهُ سُبحانَه وتعالَى له، وذلك في قولِه تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنهما: والآيةُ الأخرى الَّتي نُسِخَتْ قولُه تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، أي: النِّساءُ اللَّاتي طُلِّقْنَ، وقد دخَل بهنَّ أزواجُهنَّ ينتظِرْنَ ثلاثَ حَيْضاتٍ، وقيل: ثلاثةَ أطهارٍ، {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ} [البقرة: 228]، أي: لا يجوزُ لهنَّ {أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228]، أي: أن يُخْفِينَ ما خَلَقَ اللهُ في أرحامِهنَّ مِن الأولادِ، أو دمِ الحَيْضِ؛ وذلك أنَّ بعضَ المُطلَّقاتِ يَدَّعِينَ كذِبًا أنَّ فَترةَ الحَيْضِ طالَتْ، فتكونُ مطالبتُهنَّ بالنَّفقةِ عن تلك الفترةِ، {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 228]، أي: إذا كُنَّ صادقاتٍ في إيمانِهنَّ باللهِ ويومِ القيامةِ، {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]، أي: والزَّوجُ أحَقُّ برَدِّ امرأتِه في وقتِ عِدَّتِها، {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، أي: إذا قصَد الزَّوجُ إصلاحَ ذاتِ البَيْنِ، وحُسْنَ المُعاشَرةِ
ثمَّ قال ابنُ عبَّاسٍ: "وذلك بأنَّ الرَّجلَ كان إذا طلَّقَ امرأتَه فهو أحَقُّ برَجْعتِها، وإنْ طلَّقَها ثلاثًا"، أي: إنَّ الرَّجُلَ أحَقُّ برَجْعةِ زوجتِه، ولم يكُنْ هناك حدٌّ لعدَدِ الطَّلقاتِ الَّتي تُمنَعُ بها زوجتُه منه، وكان هذا في أوَّلِ الإسلامِ، "فنَسَخَ ذلك"، أي: نَسَخَ هذا الحُكْمَ، فقال تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، أي: الطَّلاقُ الَّذي يملِكُ الزَّوجُ فيه الرَّجعةَ بعده يكونُ مرَّتينِ، والمقصودُ أنَّه إذا طلَّقَها المرَّةَ الأُولى فله مراجعتُها، وإن طلَّقَها في الثَّانيةِ فله مُراجعتُها، فإذا وقَع ثلاثًا، فلا تَحِلُّ له حتَّى تنكِحَ زوجًا غيرَه، {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229]، أي: يُحسِنُ عِشْرتَها وصُحبتَها، {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، أي: يترُكُها ويُطلِّقُها ويُعطيها حقَّها، فلا يكونُ ظالِمًا لها
وفي الحديثِ: إثباتُ وقوعِ النَّسخِ في القُرْآنِ الكريمِ
وفيه: مَنقبَةٌ لابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عَنهما وبيانُ عِلمِه بالناسخِ والمنسوخِ