باب {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا}
بطاقات دعوية
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب على حمار على [إكاف عليه 4/ 14] قطيفة فدكية، وأردف أسامة بن زيد وراءه؛ يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج، [وذلك 7/ 132] قبل وقعة بدر.
قال: حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبى بن سلول -وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبى- فإذا فى المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين: عبدة الأوثان، واليهود، والمسلمين (34)، وفى المجلس (وفي رواية: وفي المسلمين 7/ 120) عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة؛ خمر عبد الله بن أبى أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم , ثم وقف، فنزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال [له] عبد الله بن أبى بن سلول: أيها المرء! إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذينا (وفى رواية: فلا تؤذنا) به فى مجلسنا، [و] ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال: بد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله! فاغشنا به فى مجالسنا، فإنا نحب ذلك. فاستب المسلمون والمشركون واليهود؛ حتى كادوا يتثاورون (35) , فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم، حتى سكنوا.
ثم ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - دابته فسار، حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"يا سعد! ألم تسمع ما قال أبو حباب؟ -يريد: عبد الله بن أبى- قال كذا وكذا». قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! [بأبي أنت]؛ اعف عنه واصفح عنه، فوالذى أنزل عليك الكتاب؛ لقد جاء الله بالحق الذى أنزل عليك، [و] لقد اصطلح أهل هذه البحيرة (وفى رواية: البحرة) على أن يتوجوه، فيعصبونه بالعصابة (36)، فلما أبى (وفى رواية: رد) الله ذلك بالحق الذى أعطاك الله؛ شرق (37) بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب؛ كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا} الآية، وقال الله: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} إلى آخره الآية.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتأول العفو ما أمره الله به؛ حتى أذن الله فيهم، فلما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدرا، فقتل الله به [من قتل من] صناديد [الـ] كفار [وسادة] قريش , [فقفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منصورين غانمين , معهم أسارى من صناديد الكفار وسادة قريش]؛ قال ابن أبى ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه. فبايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام، فأسلموا.
كان عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلُولَ أحَدَ قادةِ ورُؤساءِ الخَزْرجِ، ولمَّا عُرِضَ عليه الإسلامُ أسلَمَ في الظَّاهرِ، ولكنَّه كان رَأسَ المُنافِقين بالمدينةِ، ويُبطِنُ العَداوةَ للنَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمسلِمينَ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أُسامةُ بنُ زَيدٍ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَكِبَ على حِمارٍ مُسرَجٍ بقَطيفةٍ -وهي كِساءٌ غَليظٌ- «فَدَكِيَّةٍ»، أي: مَنسوبةٌ إلى «فَدَكَ»، وهي منطقةٌ مَشهورةٌ بالقربِ من خِيبرَ، وهي تَبعُدُ عن المدينةِ النَّبويَّةِ بما يُقارِبُ (140) كيلومترًا. وأَرْكَبَ أُسامةَ بنَ زَيدٍ رضِيَ اللهُ عنهما خَلْفَه على الدابَّةِ في أثناءِ ذَهابِه لِيَعودَ سَعْدَ بنَ عُبادةَ رضِيَ اللهُ عنه ويزورَه في مَرَضِه في مَنازِلِ بَني الحارِثِ بنِ الخَزْرَجِ، وَهُم قَومُ سَعْدٍ، وكان ذلك قبْلَ وَقْعةِ بَدْرٍ، فمَشى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم راكبًا دابَّتَه حتَّى مَرَّ بِمَجلِسٍ فيهِ عَبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ، وَذلك قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ، فإذا في المَجلِسِ «أخْلاطٌ»، أي: أنْواعٌ مِنَ المُسلِمينَ والمُشرِكينَ: عَبَدةِ الأوثانِ -وهي الأصنامُ- واليَهودِ، وكان عَبدُ اللهِ بنُ رَواحةَ رضِيَ الله عنه ممَّن حَضَروا في هذا المجلسِ، فَلَمَّا غَشِيَتِ المَجلِسَ «عَجاجَةُ الدَّابَّةِ»، أي: غُبارُها، وهو الترابُ النَّاعِمُ الناتِجُ عن ضَرْبِها في الأرضِ بأرجُلِها، غَطَّى عَبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ أنْفَهُ بِرِدائِه، ثمَّ قال: لا تُغَبِّروا عَلَيْنا، يقصِدُ بذلك النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومن معه، فَسَلَّمَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَيهِم، ثمَّ وَقَفَ، فَنَزَلَ عَنِ الدَّابَّةِ فَدَعاهُم إلى اللَّهِ، وَقَرأَ عَلَيهِمُ القُرآنَ، يقصِدُ بذلك ترغيبَهم إلى الإسلامِ، فَقال عَبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أيُّها المَرءُ، إِنَّهُ لا شَيءَ أحسَنُ ممَّا تَقولُ إنْ كانَ حَقًّا»، قال ذلك استهزاءً بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، «فَلا تُؤذِنا به في مَجلِسِنا» ولكنِ «ارجِعْ إلى رَحْلِكَ»، أي: مَنزِلِكَ حيثُ تقيمُ، فَمَنْ جاءَكَ باختيارِه فاقصُصْ عليه.
«فَقال عَبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ: بَلَى يا رَسولَ اللهِ، فاغْشَنَا» أي: اقصِدْنا وباشِرْنا «به في مَجالِسِنا؛ فإنَّا نَحبُّ ذلك، فاستَبَّ المُسلِمونَ والمُشرِكونَ واليَهودُ حتَّى كادوا يَتَثاوَرونَ»، أي: قارَبوا أنْ يَثِبَ بَعضُهمْ عَلَى بَعضٍ فَيَقتَتِلونَ، فَلَم يَزَلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخَفِّضُهم ويُسكِّنُهم، حتَّى سَكَنوا وهَدَؤُوا، ثمَّ رَكِبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دابَّتَه فَسارَ حتَّى دَخَلَ على سَعدِ بنِ عُبادةَ رضِيَ اللهُ عنه، فأخبره النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما فعله عبدُ اللهِ بنُ أبيٍّ، وأبو الحُبابِ كنيةُ عبدِ اللهِ، وإنما كنَّاه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في تلك الحالةِ وإن كان وَضْعُ الكُنيةِ للتشريفِ؛ لكونِه مشهورًا بها، أو لمصلحةِ التألُّفِ، فاعتذر سعدٌ وطلَبَ له العَفْوَ والصَّفحَ من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأقسم للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه: «فَوالَّذي أَنْزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ، لَقَد جاءَ اللهُ بِالحَقِّ الَّذي أَنزلَ عَلَيكَ»، وهذا تعظيمٌ منه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإقرارٌ له بالرِّسالةِ، ثم قال: «ولقدِ اصطَلَحَ أَهْلُ هذه البُحَيْرةِ»، أي: البُلَيْدةُ، والمُرادُ بها المَدينةُ النَّبَويَّةُ، على أن يُتَوِّجوا عبدَ اللهِ بنَ أُبيٍّ بِتاجِ المُلْكِ، فَيُعصِّبوه بِالعِصابةِ، أي: فَيُعَمِّموهُ بِعِمامةِ المُلوكِ، ويجعلوه سَيِّدًا عليهم، فَلَمَّا أبَى اللهُ ذلك بِالحَقِّ الَّذي أَعْطاكَ اللَّهُ من النبُوَّةِ والرِّسالةِ، «شَرِقَ»، أي: غَصَّ ابنُ أُبَيٍّ بذلك الحَقِّ الَّذي أَعْطاكَ اللهُ، وهذا كنايةٌ عن الحسَدِ وعدَمِ الرِّضا، فذلك الحَقُّ الَّذي أتَيْتَ به فَعَلَ به ما رأيتَ مِن فِعلِه وقولِهِ القَبيحِ، فَعَفا عَنهُ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
ثم أخبر أسامةُ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه رَضِيَ اللهُ عنهم كانوا يَعفُونَ عَنِ المُشرِكينَ وأَهْلِ الكِتابِ كَما أمَرَهُم اللَّهُ، وَيَصبِرونَ عَلَى الأذَى؛ قال اللهُ تعالَى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عِمرانَ: 186]. وَكانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتأَوَّلُ العَفوَ ويركَنُ له طاعةً لأوامِرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، حتَّى أَذِنَ اللهُ لَهُ فيهِم بِالقِتالِ، فتَرَكَ العَفوَ عَنهُم، أي: بِالنِّسبةِ لِلقِتالِ، وإلَّا فَكَم عَفا عَن كَثيرٍ مِنَ اليَهودِ والمُشرِكينَ بِالمَنِّ والفِداءِ وَغَيرِ ذلك.
فَلَمَّا غَزا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَدْرًا فَقَتَلَ اللهُ به صَناديدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وهم ساداتِهِم، قال ابنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ وَمَن معه مِنَ المُشرِكينَ وَعَبَدةِ الأوثانِ: هَذا أَمْرٌ قَد ظَهَرَ وَجهُهُ، أي: أقبل على التَّمامِ، يريد بذلك أنَّ الإسلامَ اشتَدَّ وقَوِيَت شوكتُه، فَبايَعوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَلَى الإِسلامِ فأسْلَموا، على أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ ابنَ سَلُولَ كان قد أضمر النِّفاقَ والشِّقاقَ، وأسلم في الظَّاهِرِ، وعامله النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومن على شاكِلَتِه من المنافقين بما ظهر منهم من الإسلامِ حتى بَيَّنَهم اللهُ له.
وفي الحَديثِ: بَيانُ ما كانَ عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الحِلْمِ والصَّفْحِ والصَّبرِ على الأذَى في اللهِ تعالَى، ودوامِ الدُّعاءِ إلى اللهِ تَعالَى، وَتألِيفِ القُلوبِ.
وفيه: الحَثُّ على التواضُعِ والمسكنةِ.
وفيه: مشروعيَّةُ ركوبِ أكثَرَ من واحدٍ على الدابَّةِ إذا كانت مُطيقةً.
وفيه: حَثٌّ على عيادةِ المريضِ.
وفيه: مشروعيَّةُ السَّلامِ على جماعةٍ من المسلمين والكُفَّارِ مُختَلِطين.
وفيه: الحَثُّ على الإصلاحِ بين المتخاصِمَينِ والمتنازِعَين.
وفيه: أنَّ الذي يأتي إلى قومٍ يُسَلِّمُ عليهم؛ فالراكِبُ يُسَلِّمُ على الماشي، والقائِمُ يُسَلِّمُ على القاعِدِ.
وفيه: مشروعيَّةُ بَثِّ ما فعله الظَّالمُ من فِعْلِه وقَولِه عند غيرِه في غَيبتِه.