باب قتل أبي جهل 5
بطاقات دعوية
عن عروة قال: وقال لي عبد الملك بن مروان حين قتل عبد الله بن الزبير: يا عروة! هل تعرف سيف الزبير؟ قلت: نعم. قال: فما فيه؟ قلت: فلة فلها يوم بدر. قال: صدقت (بهن فلول من قراع الكتائب)، ثم رده على عروة. قال هشام: فأقمناه (*) بيننا ثلاثة آلاف، وأخذه بعضنا، ولوددت أنى كنت أخذته.
كان الزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه مِن فُرْسانِ الإسْلامِ، ومِن أشجَعِ الرِّجالِ، وله قدَمُ صِدقٍ في نُصْرةِ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وإعْلاءِ رايَتِه.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّ أباه الزُّبَيرَ بنَ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه كان في جَسَدِه ثَلاثُ ضَرَباتٍ بالسَّيفِ، إحْدى هذه الضَّرَباتِ في كَتِفِه، وكان أثَرُ هذه الضَّرْبةُ باقيًا وكَبيرًا، لدَرَجةِ أنَّه كان يُدخِلُ أصابِعَه في مَكانِ هذه الضَّرْبةِ، وقدْ ضُرِبَ اثْنَتَينِ مِن هذه الضَّرَباتِ في غَزْوةِ بَدرٍ الكُبْرى، وكانت في رَمضانَ مِن العامِ الثَّاني مِن الهِجْرةِ، بيْن المُسلِمينَ وقُرَيشٍ، وكتَب اللهُ فيها النَّصرَ لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه، وضُرِبَ الضَّرْبةَ الثَّالثةَ في غَزْوةِ اليَرْموكِ، وكانت في العامِ الرَّابعَ عَشَرَ، بيْنَ المُسلِمينَ بقيادةِ الصَّحابيِّ خالدِ بنِ الوَليدِ رَضيَ اللهُ عنه بعْدَ أنْ تَنازَلَ أبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه عنِ القيادةِ لخالِدٍ، وبيْنَ الرُّومِ بقِيادةِ بَباهانَ الأرْمَنيِّ، وانتصَرَ فيها المُسلِمونَ على الرُّومِ، واليَرْموكُ: نَهرٌ يَنبُعُ مِن جِبالِ حَوْرانَ، يَجْري قُربَ الحُدودِ بيْن سوريا وفِلَسطينَ، وقبْلَ أنْ يَلتَقيَ بنَهرِ الأُردُنِّ بمَسافةٍ تَتَراوَحُ بيْن ثَلاثينَ وأربَعينَ كيلو مِترًا يُوجَدُ وادٍ فَسيحٌ، تُحيطُه مِنَ الجِهاتِ الثَّلاثِ جِبالٌ شاهِقةُ الارْتِفاعِ، ويقَعُ في الجِهةِ اليُسْرى لليَرْموكِ، وهو الَّذي وقَعَت فيه المَعرَكةُ. وفي رِوايةٍ أُخْرى في صَحيحِ البُخاريِّ: أنَّ ضَرْبةً واحدةً في بَدرٍ، والضَّربَتَينِ في اليَرْموكِ، فيُحمَلُ على أنَّه رَضيَ اللهُ عنه كان به ضَرَباتٌ غَيرُ الثَّلاثِ المَذْكورةِ.
ويُخبِرُ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّ سَيفَ الزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه كان معَ أخيه عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عنهما حينَ قُتِلَ بمكَّةَ سَنةَ ثَلاثٍ وسَبْعينَ مِن الهِجْرةِ، بعْدَ صِراعٍ معَ جُنودِ بَني أُميَّةَ بقيادةِ الحجَّاجِ بنِ يوسُفَ، فلمَّا قُتِلَ رَضيَ اللهُ عنه، وذَهبَتْ أغْراضُه إلى الخَليفةِ عبدِ الملِكِ بنِ مَرْوانَ في دِمَشقَ، ومنها هذا السَّيفُ، وكان عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ قدْ خرَج إلى الشَّامِ إلى عبدِ الملِكِ، فسَألَه عبدُ الملِكِ: هلْ يَعرِفُ سيفَ والدِه الزُّبَيرِ؟ فقال له عُرْوةُ: نَعمْ، فيه فَلَّةٌ فُلَّها يَومَ بَدرٍ، أي: فيه قِطْعةٌ كُسِرَتْ منه يومَ بَدرٍ، فقال له عبدُ الملِكِ: صَدقْتَ. واستَشهَدَ بقَولِ النَّابِغةِ الذُّبْيانيِّ:
بِهنَّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكَتائبِ
أي: بهنَّ كُسورٌ مِن مُبارَزةِ وقِتالِ الكَتائبِ، جَمعُ كَتيبةٍ، وهي الجَيشُ، ويَعني به: ضَرْبَ الجُيوشِ بَعضِهم بَعضًا، والمذكور هنا عَجُزُ هذا البَيتِ، أي: شَطْرُه الثاني، وصَدْرُ هذا البيتِ، أي: شَطْرُه الأوَّلُ هو:
ولا عَيْبَ فيهم غَيرَ أنَّ سُيوفَهم
أي: ليس فيهم عَيبٌ إلَّا إنْ عُدَّ القتالُ والمبارَزةِ بالسُّيوف حتَّى تكسَّرَت في أيْدِيهم عَيبًا، وهذا في عِلمِ البلاغةِ يُسمَّى المَدحَ في مَعرِضِ الذَّمِّ، أو تَأكيدَ المدْحِ بما يُشبِهُ الذَّمَّ؛ لأنَّ الفَلَّ في السَّيفِ نَقصٌ حِسِّيٌّ، لكنَّه لمَّا كان دَليلًا على قوَّةِ ساعِدِ صاحِبِه؛ كان مِن جُملةِ كَمالِه.
ثمَّ أعْطَى عبدُ الملِكِ السَّيفَ لعُرْوةَ، فكان معَه إلى أنْ مات، ثمَّ انتَقَلَ إلى أبْنائِه.
ثمَّ قال هِشامُ بنُ عُرْوةَ: «فأقَمْناه بيْنَنا ثَلاثةَ آلافٍ»، أي: قدَّرْنا ثَمنَه بثَلاثةِ آلافٍ، فأخَذَه بعضُ أبْناءِ عُروةَ، وكان هِشامٌ يَوَدُّ أنْ يَكونَ هو الَّذي أخَذَه، وكان سَيفُ الزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه مُحَلًّى بالفِضَّةِ، وكذلك كان سَيفُ عُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ مُحَلًّى بالفِضَّةِ.
وفي الحَديثِ: فَضيلةُ الزُّبَيرِ بنِ العوَّامِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: مَشْروعيَّةُ تَحْليةِ السَّيفِ بالفِضَّةِ.