باب ومن سورة إذا السماء انشقت2
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن عبيد الهمذاني قال: حدثنا علي بن أبي بكر، عن همام، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حوسب عذب». «وهذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس، لا نعرفه من حديث قتادة عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه»
النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو المرجعُ في تَفسيرِ ما يُشكِلُ على الناسِ في دِينِهم، وقد حرَصَ الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم على الرُّجوعِ إليه في ما يَعرِضُ لهم ويُشكِلُ عليهم.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِر عبدُ اللهِ بْنُ أبي مُلَيكةَ، أنَّ عائِشةَ زَوجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانتْ لا تَسمَعُ شيئًا لا تَعرِفُه، إلَّا راجَعَتْ فيه القائلَ أو سأَلَت عنه النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حتَّى تَعْرِفَ حَقيقتَه وصَوابَه مِن خَطَئِه، وهذا مِن الفِطنةِ والذَّكاءِ؛ ألَّا تُوقِنَ بكلِّ ما سَمِعَتْه ومعها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثم رَوَت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَالَ: «مَن حُوسِبَ عُذِّبَ»، وهنا قارنتْ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها بيْن قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقولِ اللهِ تعالَى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]؛ فلَفظُ الحديثِ عامٌّ في تَعذيبِ مَن حُوسِبَ، ولَفظُ الآيةِ دالٌّ على أنَّ بَعضَهم لا يُعذَّبُ، فأجابَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بقولِه: «إنَّما ذلكِ العَرْضُ، ولكِنْ مَن نُوقِشَ الحِسَابَ يَهْلِكْ»، فكان جَوابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لبَيانِ المَقصودِ الحَقيقيِّ للآيةِ، وأنَّ الحِسابَ اليَسيرَ شَيءٌ آخَرُ، وهو العرْضُ، وهو إبرازُ الأعمالِ وإظهارُها، فيُعرِّفُ اللهُ صاحبَها بذُنوبِه، ثمَّ يَتجاوَزُ عنه؛ حتى يَعرِفَ مِنَّةَ اللهِ عليه في سَتْرِها عليه في الدُّنيا، وفي عَفْوِه عنها في الآخرةِ، وأنَّ مَن نُوقِشَ الحِسابَ يَهْلِكُ، والمعنى: أنَّ التَّقصيرَ غالبٌ على العِبادِ، فمَن استُقصِيَ عليه ولم يُسامَحْ؛ هَلَكَ وأُدخِلَ النَّارَ.
فالحِسابُ يومَ القِيامةِ نَوعانِ: حِسابُ عَرْضٍ ومُعاتَبةٍ، وهو حِسابٌ يَسيرٌ لا عَذابَ فيه، وحِسابُ مُناقَشةٍ، وهو حِسابٌ عَسيرٌ وشَديدٌ، ولا يَخلو مِن العذابِ؛ لأنَّه مُناقَشةٌ للعبدِ على أخطائِه، وتَوقيفُه على جَميعِ ذُنوبِه، واستقصاءٌ لكلِّ سيِّئاتِه.
وفي الحديثِ: بَيانُ فَضيلةِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، وحِرصِها على التَّعلُّمِ والتَّحقيقِ.
وفيه: إثباتُ الحِسابِ والعَرْضِ، والعذابِ يومَ القيامةِ، وتَفاوُتُ النَّاسِ في الحِسابِ.
وفيه: جَوازُ المُناظَرةِ ومُقابَلةِ السُّنَّةِ بالكِتابِ.
وفيه: أنَّ مِن حقِّ طالبِ العِلمِ أنْ يَسأَلَ فيما أشكَلَ عليه، وأنْ يُراجِعَ.
وفيه: أنَّ على العالِمِ أنْ يُقابِلَ مُراجعتَه برَحابةِ صَدْرٍ، وأنْ يُجيبَ السَّائلَ المُستفهِمَ، كما فعَلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.