جهد المقل 3
سنن النسائي
أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا ابن عجلان، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبق درهم مائة ألف» قالوا: يا رسول الله وكيف؟ قال: «رجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف، فتصدق بها»
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُرشِدُ أُمَّتَه إلى مَعالي الأمورِ مِن الأقوالِ والأفعالِ، وقد حَثَّ النَّاسَ على التَّصدُّقِ والإنفاقِ عن طِيبِ خاطرٍ، وأوضَح أنَّ اللهَ يُعْطي على ذلك الأجْرَ العظيمَ، وأنَّ الصَّدقةَ تُنْمَى لِصاحبِها عندَ اللهِ تعالى
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "سبَق دِرهمٌ مِئةَ ألفِ دِرهمٍ"، أي: نفقةُ دِرهمٍ في سبيلِ اللهِ بالتَّصدُّقِ به عن طيبِ خاطرٍ وإخلاصِ نيَّةٍ؛ فإنَّ ذلك في الأجرِ والثَّوابِ أفضَلُ مِن نفَقةِ مِئةِ ألفِ دِرْهَمٍ، "قالوا: وكيف؟ قال: كان لِرَجُلٍ دِرْهَمانِ تصَدَّق بأحَدِهما"، أي: إنَّه رجلٌ فقيرٌ لا يَملِكُ إلَّا دِرْهَمَين فأنفَق وتَصدَّق بأحَدِهما وهو فقيرٌ محتاجٌ فيكونُ قد أنفَق نِصفَ مالِه، مع احتياجِه إلى ما أنفقَه، "وانطَلَق رجلٌ إلى عُرضِ مالِه، فأخَذ مِنه مِئةَ ألْفِ دِرْهَمٍ فتصَدَّق بها"، أي: إنَّه رجلٌ غنيٌّ، فأنفَق مِن بعضِ مالِه مِئةَ ألفٍ فقط، وبقِي أكثرُ مالِه كما هو.
وقد ورَد في رِوايةٍ مُوضِّحةٍ أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم سُئِل: "أيُّ الصَّدقةِ أفضلُ؟ قال: جُهْدُ المقِلِّ"، والجُهدُ الوُسْعُ والطَّاقةُ، أو المشقَّةُ والغايةُ، والمُقِلُّ: الفقيرُ الَّذي معَه شيءٌ قليلٌ مِن المالِ: أي: إنَّ أفضلَ الصَّدقةِ هو الَّذي يتَصدَّقُ به الفقيرُ قليلُ المالِ على قدْرِ طاقتِه ووُسْعِه مع مَشقَّةِ ذلك عليه، وإنَّما كانتْ صدقةُ المقِلِّ أفضلَ مِن صَدقةِ الغنيِّ؛ لأنَّ الفقيرَ يتَصدَّقُ بما هو مُحتاجٌ إليه، بخلافِ الغنيِّ؛ فإنَّه يتَصدَّقُ بفُضولِ مالِه
ويُجمَعُ بينَه وبينَ حديثِ "خيرُ الصَّدَقةِ ما كان عن ظهرِ غِنًى" أنَّ هذا الحديثَ مَحمولٌ على قَويِّ الإيمانِ الَّذي يَصبِرُ على الفاقةِ، ويَكتَفي بأقلِّ الكفايةِ، والحديثُ الثَّاني على ضعيفِ الإيمانِ، ويُحتَمَلُ أن يكونَ المرادُ بالغِنى غِنى القلبِ الَّذي يَصبِرُ صاحبُه على الجوعِ والشِّدَّةِ، وهو المرادُ بالمقلِّ، فيكونُ المعنى: أنَّ تَصدُّقَ الفقيرِ الغنيِّ القلبِ، ولو كان قليلًا، أفضلُ مِن تَصدُّقِ الغنيِّ بكثيرٍ مِن مالِه
وفي الحديثِ: الحَثُّ على الصَّدقةِ بطِيبِ خاطرٍ وإخلاصِ نيَّةٍ
وفيه: تَفاضُلُ العِباداتِ بحسَبِ أحوالِ العابِدين