حديث الأعرابي2
مسند احمد
حدثنا سفيان بن عيينة، عن هارون بن رئاب، عن ابن الشخير، عن رجل من بني أقيش، قال: معه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " صيام ثلاثة أيام من الشهر يذهبن (1) وحر الصدر "
مِن حِكمِ الصَّومِ كَسرُ الشَّهواتِ في النُّفوسِ؛ حتَّى لا تَستحكِمَ في الإنسانِ فيصيرَ كالمستعبَدِ لها، وانشِراحُ الصَّدرِ مِن أَجَلِّ الفوائدِ الَّتي يَتحصَّلُ عليها المؤمِنُ مِن صَومِه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عَمرُو بنُ شُرَحْبيلَ، وفي رِوايةٍ: عن رَجلٍ، مِن أَصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، أنَّه: "أتَى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رَجلٌ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما تَقولُ في رجلٍ صام الدَّهرَ كلَّه؟"، أي: ما حُكمُه؟ والمرادُ بالدَّهرِ: العامُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "وَدِدتُ أنَّه لَم يَطعَمِ الدَّهرَ شيئًا"، أي: لا يَأكُلُ في لَيلِه ولا نَهارِه، وهذا على سَبيلِ الزَّجرِ والإنكارِ منه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، قال الرَّجلُ: "فثُلُثَيه؟"، أي: ما حُكمُ صيامِ ثُلثَيِ العامِ؛ كصِيامِ ثمانيةِ أشهُرٍ منه وما يقارِبُ ذلك؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أَكثَرَ"، أي: هذا أَكثَرُ مِن الحَدِّ المطلوبِ، وقيل: أكثَرَ الرَّجلُ مِن الصَّومِ حتَّى جاوَز الحَدَّ الَّذي يَنبغي ألَّا يتَجاوَزَه، قال الرَّجلُ: "فنِصْفَه؟"، أي: ما حُكمُ صيامِ نِصفِ الدَّهرِ؛ كصيامِ ستَّةِ أشهُرٍ؟ فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أكثَرَ"، ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "أفَلا أُخبِرُكم بما يُذهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ؟"، أي: يُزيلُ ما به مِن الغِشِّ والحِقدِ، أو غَيظَه أو نِفاقَه، أو أشَدَّ الغَضبِ، قالوا: "بلى"، أي: أَخبِرْنا يا رسولَ اللهِ، فقال صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "صيامُ ثلاثَةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهرٍ"، أي: يُكتَفى بصِيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شَهرٍ على مَدارِ العامِ؛ قيل: يَحتمِلُ أنْ يُقالَ: طالِبُ العِبادةِ لا يَطمئِنُّ قَلبُه بلا عِبادةٍ، فأشار إلى أنَّ القَدْرَ الكافيَ في الاطمِئنانِ هذا القَدْرُ.
وقيل: إنَّ رَفْضَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم صيامَ نِصفِ الدَّهرِ نظرًا إلى ما غلَب على النَّاسِ مِن ضَعفٍ ونحوِه، وإلَّا فإنَّه قد ثبَت عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أنَّه قال: "فصُمْ يومًا وأَفطِرْ يومًا؛ فذلك صِيامُ داودَ عليه السَّلامُ، وهو أَفضلُ الصِّيامِ".
وهذا مِن التَّربيةِ النَّبويَّةِ للنَّاسِ على التَّعبُّدِ للهِ بقَدرِ الاستِطاعَةِ، وعدَمِ المشقَّةِ على النَّفسِ حتَّى يُداوِمَ عليها العَبدُ