حديث عمرو بن عبسة 4
مستند احمد
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السلمي قال: قلت له: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم، قال: سمعته يقول: «من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام، فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث، أدخله الله عز وجل الجنة برحمته إياهم، ومن شاب شيبة في سبيل الله عز وجل كانت له نورا يوم القيامة، ومن رمى بسهم في سبيل الله عز وجل بلغ به العدو، أصاب أو أخطأ، كان له كعدل رقبة، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله عز وجل، فإن للجنة ثمانية أبواب، يدخله الله عز وجل من أي باب شاء منها الجنة»
في هذا الحَديثِ يُعدِّدُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبوابَ الفَضلِ والخَيرِ التي يَنبَغي أنْ يَحرِصَ عليها المُسلِمُ في تَحصيلِ الأجْرِ والثَّوابِ العَظيمِ، فيَقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "أيُّما رَجُلٍ رَمى بسَهمٍ في سَبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ"، أي: مَن خَرَجَ لِلجِهادِ والقِتالِ في سَبيلِ اللهِ سُبحانَه وتَعالى، وأطلَقَ سَهمَه قاصِدًا به عَدوَّه، "فبَلَغَ، مُخطِئًا أو مُصيبًا" سواءٌ أخطأ هذا السَّهمُ العَدوَّ أم أصابَه فقَتَلَه، "فله مِنَ الأجْرِ كرَقَبةٍ يُعتِقُها" بمَعنى: كان له مِنَ الجَزاءِ والأجْرِ مِثلُ مَن أعتَقَ وحَرَّرَ مَملوكًا وخَلَّصَه مِن ضَرَرِ الرِّقِّ والعُبوديَّةِ، ومَلَّكَه نَفْسَه، وليس هذا فقط، بل كان مِثلَ مَن حَرَّرَ رَقَبةً "مِن وَلَدِ إسماعيلَ"، فيَكونَ مِثلَ مَن أعتَقَ نَفْسًا مِن نَسلِ نَبيِّ اللهِ إسماعيلَ عليه السَّلامُ، وذلك لِشَرَفِهم على غَيرِهم، فهم أفضَلُ أصنافِ الأُمَمِ قَدْرًا وحَسَبًا، وهم أفضَلُ العَرَبِ. "وأيُّما رَجُلٍ شابَ شَيبةً في سَبيلِ اللهِ، فهي له نورٌ" والشَّيبُ هو تَغيُّرُ لَونِ الشَّعرِ إلى البَياضِ؛ بسَبَبِ كِبَرِ السِّنِّ، والمَقصودُ أنَّ مَن عاشَ عُمُرَه وهو يُجاهِدُ ويُقاتِلُ في سَبيلِ اللهِ، إلى أنْ شابَ وتَغيَّرَ لَونُ شَعرِه، ولو كان شَعرةً واحِدةً، كان جَزاؤُه أنْ يَتحَوَّلَ الشَّعرُ نَفْسُه إلى نورٍ يَهتَدي به صاحِبُه يَومَ القيامةِ، وقيلَ: المَقصودُ بسَبيلِ اللهِ الإسلامُ، أي: بأنْ شابَ شَعرُه وهو يَقومُ بأعمالِ البِرِّ والطاعاتِ وهو مُسلِمٌ. ثم بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَضلَ مَن أعتَقَ رَقَبةً بوَجهٍ عامٍّ، فقال: "وأيُّما رَجُلٍ مُسلِمٍ أعتَقَ رَجُلًا مُسلِمًا"، أي: مَن حَرَّرَ عَبدًا مُسلِمًا مِن رِقِّه وعُبوديَّتِه، "فكُلُّ عُضوٍ مِنَ المُعتَقِ بعُضوٍ مِنَ المُعتِقِ فِداءٌ له مِنَ النارِ" بمَعنى أنَّ كُلَّ عُضوٍ مِن أعضاءِ المُعتَقِ الذي حَدَثتْ له الحُرِّيَّةُ مِنَ الرِّقِّ في الدُّنيا، فإنَّ اللهَ يُكافِئُ الذي أعتَقَه وحَرَّرَه بأنْ يُعتِقَ كُلَّ عُضوٍ منه مِنَ النارِ؛ فتَكونَ له السَّلامةُ مِنَ النارِ، "وأيُّما امرأةٍ مُسلِمةٍ أعتَقَتِ امرأةً مُسلِمةً، فكُلُّ عُضوٍ مِنَ المُعتَقةِ بعُضوٍ مِنَ المُعتِقةِ فِداءٌ لها مِنَ النارِ" فتَكونَ مِثلَ الرَّجُلِ تَمامًا في الأجْرِ والعِتقِ مِنَ النارِ؛ جَزاءً على عِتقِه رَقَبةَ عَبدٍ مَملوكٍ. "وأيُّما رَجُلٍ مُسلِمٍ قَدَّمَ للهِ عَزَّ وجَلَّ مِن صُلبِه ثَلاثةً" ماتوا وهم صِغارٌ "لم يَبلُغوا الحِنثَ" قَبلَ بُلوغِهمُ التَّكليفَ، فلم تُكتَبْ عليهمُ الآثامُ "أوِ امرأةٍ" قَدَّمتِ ثَلاثةً مِن صُلبِها، فلها الأجْرِ نَفسُه مِثلَ الرَّجُلِ، "فهم له سُترةٌ مِنَ النارِ" فيَقيه اللهُ النارَ؛ رَحمةً به؛ لِمَوتِ أولادِه، وخَصَّ الحُكمَ بالذين لم يَبلُغوا الحِنثَ -وهمُ الصِّغارُ-؛ لِأنَّ قَلبَ الوالِدَيْنِ على الصَّغيرِ أرحَمُ وأشفَقُ، دونَ الكَبيرِ؛ لِأنَّ الغالِبَ على الكَبيرِ عَدَمُ السَّلامةِ مِن مُخالَفةِ والِدَيْه. "وأيُّما رَجُلٍ" والمُرادُ الرَّجُلُ والمَرأةُ، وإنَّما خَرَجَ الكَلامُ مَخْرَجَ الغالِبِ، "قامَ إلى وُضوءٍ" تَوجَّهَ لِلوُضوءِ بالماءِ فتَوضَّأ وُضوءًا كامِلًا "يُريدُ الصَّلاةَ" فكانَ وُضوؤُه هذا لِأجْلِ الصَّلاةِ "فأحصى الوُضوءَ إلى أماكِنِه" بأنْ غَسَلَ أعضاءَ الوُضوءِ وأعطى كُلَّ عُضوٍ حَقَّه مِنَ الماءِ والغَسلِ الجَيِّدِ، "سَلِمَ مِن كُلِّ ذَنبٍ أو خَطيئةٍ له" يعني: مَحا اللهُ عنه ذُنوبَه وأعمالَه الفاسِدةَ، وهو خاصٌّ بغُفرانِ ما دونَ الكَبائِرِ؛ لِأنَّ لِتَكفيرِ الكَبيرةِ شأنًا آخَرَ "فإنْ قامَ إلى الصَّلاةِ" بهذا الوُضوءِ التامِّ "رَفَعَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ بها دَرَجةً" أعطاه اللهُ مَنزِلةً رَفيعةً عاليةً في الجَنَّةِ، أو زادَه بها حَسَنةً "وإنْ قَعَدَ" فلم يَقُمْ إلى الصَّلاةِ بهذا الوُضوءِ، "قَعَدَ سالِمًا" مِنَ الخَطايا بَعدَ غُفرانِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ له، ويَنبَغي لِلمُتطَهِّرِ أنْ يَستَحضِرَ مع غَسلِ أعضائِه ذُنوبَه وخَطاياه، ويَعزِمَ على التَّوبةِ منها، فيُطهِّرَ بَدَنَه ظاهِرًا وباطِنًا، لِيَصلُحَ لِلوُقوفِ بَينَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ. "فقال شُرَحبيلُ بنُ السِّمطِ" لِعَمرِو بنِ عَبَسةَ رَضيَ اللهُ عنه، راوي هذا الحَديثِ: "آنتَ سَمِعتَ هذا الحَديثَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يا ابنَ عَبَسةَ؟" وهذا استِفهامٌ لِلتَّوثُّقِ مِنَ السَّماعِ؛ لِعِظَمِ ما وَرَدَ في الحَديثِ، وليس تَكذيبًا لِلرَّاوي، فقال ابنُ عَبَسةَ: "نَعَمْ، والذي لا إلهَ إلَّا هو" وهذا قَسَمٌ باللهِ الواحِدِ "لو أنِّي لم أسمَعْ هذا الحَديثَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ غَيرَ مَرَّةٍ أو مَرَّتَيْنِ أو ثَلاثٍ أو أربَعٍ أو خَمسٍ أو سِتٍّ أو سَبعٍ -فانتَهى عِندَ سَبعٍ-، ما حَلَفتُ -يَعني: ما بالَيتُ- ألَّا أُحدِّثَ به أحَدًا مِنَ الناسِ، ولكِنِّي واللهِ ما أدري عَدَدَ ما سَمِعتُه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" فهو يُؤكِّدُ أنَّه سَمِعَ هذا الكَلامَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَثيرًا مِنَ المَرَّاتِ؛ ولذلك حَدَّثَ به لِيَنتَفِعَ الناسُ به، ولِيَتعَلَّموا السُّنَّةَ النَّبويَّةَ
وفي الحَديثِ: أنَّ الجَزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ
وفيه: فَضلُ الجِهادِ والرَّميِ في سَبيلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
وفيه: فَضلُ إعتاقِ الرِّقابِ
وفيه: بَيانُ أجْرِ مَن عاشَ عُمُرَه في الطاعةِ للهِ، وفي الإسلامِ
وفيه: فَضلُ مَن صَبَرَ على المُصيبةِ في الوَلَدِ، واحتِسابِ الأجْرِ عِندَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ
وفيه: فَضلُ الوُضوءِ، وأنَّه يُكفِّرُ الذُّنوبَ