‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه244

‌‌مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه244

حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم قم فابعث بعث النار، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك يا رب، وما بعث النار، قال: من كل ألف تسع مائة وتسعة وتسعين (1) ، قال: فحينئذ يشيب المولود، {وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 2] قال: فيقولون: فأينا (2) ذلك الواحد؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تسع مائة وتسعة وتسعين من يأجوج ومأجوج ومنكم واحد " قال: فقال الناس: الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) : " والله إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، والله إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " قال: فكبر الناس، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنتم يومئذ في الناس إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود - أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض - " (2)

يَومُ القِيامَةِ هَولُه على النَّاسِ شَديدٌ؛ فمنهم شَقيٌّ وسَعيدٌ، والسَّعيدُ هو مَن وفَّقَه المَولى الجَليلُ لِلجَنَّةِ، وحجَبَ عنه لهَبَ النَّارِ وحَريقَها، وفي هذا الحَديثِ صُورةٌ من هذا الهَولِ الذي يكونُ يَومَ القِيامَةِ، لا سِيَّما وهو يُظهِرُ نِسبَةَ أهلِ الجَنَّةِ مُقارَنَةً بأهلِ النَّارِ.
وفيه يَقولُ أنسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه: "نَزَلتْ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1، 2] على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو في مَسيرٍ"، أي: أنَّ أوَّلَ آيتَينِ من سورة الحَجِّ نَزَلتْ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو في سَفَرٍ بَعيدٍ عن بَيتِه وأهْلِه، "فرجَّعَ بها صَوتَه"، أي: فظَلَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُردِّدُها "حتى ثابَ إليه أصحابُه"، أي: حتى رجَعَ وانتَبَهَ أصحابُه إلى تَرديدِه الآيةَ، "فقال: أتَدرونَ أيَّ يَومٍ هذا؟" لَمَّا رَأى منهم ذلك، سأَلَهم أتَدرونَ أيَّ الأيَّامِ تتعلَّقُ به هذه الآياتُ وتَقصِدُه، فسَكَتَ أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانتْ تلك عادَتَهم تَأدُّبًا وتَوقيرًا معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "هذا يَومُ يَقولُ اللهُ لآدَمَ: يا آدَمُ، قُمْ فابعَثْ بَعْثَ النَّارِ"، أي: هذا يَومُ القِيامَةِ، وبَعْثُ النَّارِ: الذين كُتِبَ عليهم دُخولُها من ذُرِّيَّةِ آدَمَ، ومعنى أَخرِجْ بَعْثَ النَّارِ: مَيِّزْ أهلَ النَّارِ من غَيرِهم، "مِن كُلِّ أَلْفٍ تِسعَ مِئَةٍ وتِسعَةً وتِسعينَ" وهو بيانٌ لِمَا عليه أكثَرُ وَلَدِ آدَمَ؛ "فكَبُرَ ذلك على المُسلِمينَ"، أي: لَمَّا سَمِعَ أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك شَقَّ عليهم وعَظُمَ، فلمَّا رَأى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الأمْرَ هالَهم أرادَ أنْ يُطَمئِنَهم ويُخفِّفَ عنهم، فقال: "سَدِّدوا وقارِبوا وأَبشِروا!"، أي: لا يَهولَنَّكم الأمْرُ كثيرًا، ولكن اعْمَلوا، ومعنى: سدِّدوا، أي: اطْلُبوا بنِيَّاتِكم السَّدادَ، وهو القَصدُ المُستقيمُ الذي لا مَيلَ فيه، ومعنى: قارِبوا تأكيدٌ للتَّسديدِ من حيثُ المعنى، أي: افْعَلوا ما بوُسعِكم، واطْلُبوا الطَّريقَ المُستقيمَ، ثم أرادَ أنْ يُبشِّرَهم، فقال لهم: "فوالذي نَفْسي بيَدِه"، أي: قاسِمًا باللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك لأنَّ اللهَ هو الذي يَملِكُ الأنْفُسَ، وكَثيرًا ما كان يُقسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القَسَمِ، "ما أنتم في النَّاسِ إلَّا كالشَّامَةِ في جَنبِ البَعيرِ"، والشَّامَةُ: عَلامةٌ ذاتُ لَونٍ تَظهَرُ في البَدَنِ، يُخالِفُ لَونُها لَونَ سائِرِ البَدَنِ، ويكونُ حَجمُها ضَئيلًا مُقارَنَةً بلَونِ الأصلِ، "أو كالرَّقْمَةِ في ذِراعِ الدَّابَّةِ"، والرَّقْمَةُ: النَّاتِئُ الذي يكونُ في الذِّراعِ، وقيل: الدَّائرةُ التي تكونُ عليه، ثم أرادَ أنْ يَزيدَ في تَبشيرِهم وليُعلِمَهم ممَّن سيكونُ التِّسعَ مِئةِ والتِّسعينَ، فقال: "وإنَّ معكم لخَليقَتينِ ما كانَتا في شَيءٍ قَطُّ إلَّا كثَّرَتاه: يَأجوجَ ومَأجوجَ، ومَن هَلَكَ مِن كَفَرةِ الجِنِّ والإنسِ"، أي: لا تَخافوا؛ فبَعثُ النَّارِ الذي يُخرِجُه آدَمُ عليه السَّلامُ سيكونُ فيما سيُغَلَّبُ منه: قَومُ يَأجوجَ ومَأجوجَ، وكذلك كَفَرةُ الجِنِّ والإنسِ.
وفي الحديثِ: الحثُّ على الطَّاعةِ، وأنْ يكونَ المُسلِمُ حَريصًا عليها؛ تَحسُّبًا لهذا اليَومِ العَظيمِ.
وفيه: بيانُ مَزيدٍ من خَصائِصِ هذه الأُمَّةِ المُحمَّديَّةِ بتَفضُّلِ اللهِ عليها ورَحمَتِه إيَّاها( ).