مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه598
مسند احمد
حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا عطاء بن السائب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: أي رب يدخلني الجبابرة والملوك والعظماء والأشراف، وقالت الجنة: أي رب يدخلني الفقراء والضعفاء والمساكين، فقال تبارك وتعالى للنار: أنت عذابي أصيب بك من أشاء، وقال للجنة: أنت رحمتي وسعت كل شيء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما النار فيلقى فيها أهلها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يأتيها تبارك وتعالى فيضع قدمه عليها، فتزوى وتقول: قدني قدني. وأما الجنة: فتبقى ما شاء الله أن تبقى، ثم ينشئ الله لها خلقا بما يشاء " وقال حسن الأشيب: " وأما الجنة فتبقى ما شاء الله أن تبقى "
وفي هذا الحديثِ يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "احْتَجَّت الجنَّةُ والنارُ"، أي: اخْتَصَمَتِ الجنةُ والنارُ عندَ خالقِهما سُبحانَه وتَعالَى، وهذه المُحاجَّةُ جاريةٌ على التحقيقِ؛ فإنَّه تعالى قادر على أنْ يجعلَ كُلَّ واحدةٍ منهما مُميَّزةً مُخاطَبةً، "فقالتِ الجنَّةُ ما لي لا يَدْخُلُني إلَّا فُقراءُ الناسِ"، أي: السَّاقِطون مِن أَعيُنِ الناسِ لفقرِهم وضَعفِهم، "وقالتِ النارُ ما لي لا يَدْخُلُني إلَّا الجبَّارون والمُتكبِّرون"، أي: اختُصِصْتُ بأهْلِ الكِبر والتجبُّر، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ للنارِ: "أنْتِ عذابي أُصيبُ بكِ مَن أشاءُ. وقال للجنَّةِ: أنْتِ رَحمتي أُصيبُ بكِ مَن أشاءُ، ولكلِّ واحدةٍ منكما مِلْؤُها"، أي: مِلْؤُها بسُكَّانِها، ولكنْ بين الساكنيْنِ تفاوُتٌ عظيمٌ؛ "فأمَّا الجنَّةُ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنشِئُ لها ما شاء" يعني: يُنشِئُ لها أُناسًا لم يَعْمَلوا خيرًا، فيُدخِلُهم إيَّاها، وهذا فَضْلٌ مِن الله تعالى، وفي هذا دليلٌ على أنَّ أصْلَ دُخولِ الجنَّةِ ليس في مُقابَلَةِ عَمَلٍ بل العملُ سَببٌ لدخولها ولا يكونُ إلَّا برَحمةِ اللهِ تعالى ورِضوانِه، "وأمَّا النارُ؛ فيْلْقَوْن فيها"، أي: يُرمَى فيها العُصاةُ، "وتقولُ هل مِن مَزيدٍ؟"، أي: لا تَمْتلِئُ بل تُنادي بمَزيدٍ من الداخلين فيها، "حتى يَضَعَ قَدَمَهُ فيها؛ فهنالك تَمْتلِئُ ويَزْوي بعضُها إلى بعضٍ، وتقولُ: قَطْ قَطْ"، أي: كَفَى كَفَى، فهُنا تَمْتلِئُ ويَلْتَقِي بعضُها ببعضٍ على مَن فيها، ولا يَظلِمُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن خَلْقِهِ شيئًا.
وسَمَّى الجَنَّةَ رحْمةً؛ لأنَّ بها تَظْهَرُ رحْمةُ اللهِ، وسمَّى النارَ عذابًا؛ لأنَّه تُظهِرُ عذابَ اللهِ وشِدَّتَه على العُصاةِ، وإلَّا فرحْمةُ اللهِ وعذابُهُ من صِفاتِهِ التي لم يَزَلْ بها موصوفًا، ليس للهِ تعالى صِفَةٌ حادِثَةٌ، ولا اسمٌ حادِثٌ؛ فهو قديمٌ بجَميعِ أسمائِه وصِفاتِه جلَّ جلالُه، وتقدَّسَتْ أسماؤُه.
والقَدَمُ والرِّجْلُ صِفتانِ ثابِتَتَانِ لله عزَّ وجلَّ، مُنَزَّهَتان عن التَّكْييفِ والتّمثيلِ.