مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه606
مسند احمد
حدثنا عثمان بن محمد، قال عبد الله: وسمعته أنا من عثمان، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، قال: فقضى بينهما، إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكلاكما علي ملؤها " (2)
وفي هذا الحديثِ يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "احْتَجَّت الجنَّةُ والنارُ"، أي: اخْتَصَمَتِ الجنةُ والنارُ عندَ خالقِهما سُبحانَه وتَعالَى، وهذه المُحاجَّةُ جاريةٌ على التحقيقِ؛ فإنَّه تعالى قادر على أنْ يجعلَ كُلَّ واحدةٍ منهما مُميَّزةً مُخاطَبةً، "فقالتِ الجنَّةُ ما لي لا يَدْخُلُني إلَّا فُقراءُ الناسِ"، أي: السَّاقِطون مِن أَعيُنِ الناسِ لفقرِهم وضَعفِهم، "وقالتِ النارُ ما لي لا يَدْخُلُني إلَّا الجبَّارون والمُتكبِّرون"، أي: اختُصِصْتُ بأهْلِ الكِبر والتجبُّر، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ للنارِ: "أنْتِ عذابي أُصيبُ بكِ مَن أشاءُ. وقال للجنَّةِ: أنْتِ رَحمتي أُصيبُ بكِ مَن أشاءُ، ولكلِّ واحدةٍ منكما مِلْؤُها"، أي: مِلْؤُها بسُكَّانِها، ولكنْ بين الساكنيْنِ تفاوُتٌ عظيمٌ؛ "فأمَّا الجنَّةُ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُنشِئُ لها ما شاء" يعني: يُنشِئُ لها أُناسًا لم يَعْمَلوا خيرًا، فيُدخِلُهم إيَّاها، وهذا فَضْلٌ مِن الله تعالى، وفي هذا دليلٌ على أنَّ أصْلَ دُخولِ الجنَّةِ ليس في مُقابَلَةِ عَمَلٍ بل العملُ سَببٌ لدخولها ولا يكونُ إلَّا برَحمةِ اللهِ تعالى ورِضوانِه، "وأمَّا النارُ؛ فيْلْقَوْن فيها"، أي: يُرمَى فيها العُصاةُ، "وتقولُ هل مِن مَزيدٍ؟"، أي: لا تَمْتلِئُ بل تُنادي بمَزيدٍ من الداخلين فيها، "حتى يَضَعَ قَدَمَهُ فيها؛ فهنالك تَمْتلِئُ ويَزْوي بعضُها إلى بعضٍ، وتقولُ: قَطْ قَطْ"، أي: كَفَى كَفَى، فهُنا تَمْتلِئُ ويَلْتَقِي بعضُها ببعضٍ على مَن فيها، ولا يَظلِمُ اللهُ عزَّ وجلَّ مِن خَلْقِهِ شيئًا.
وسَمَّى الجَنَّةَ رحْمةً؛ لأنَّ بها تَظْهَرُ رحْمةُ اللهِ، وسمَّى النارَ عذابًا؛ لأنَّه تُظهِرُ عذابَ اللهِ وشِدَّتَه على العُصاةِ، وإلَّا فرحْمةُ اللهِ وعذابُهُ من صِفاتِهِ التي لم يَزَلْ بها موصوفًا، ليس للهِ تعالى صِفَةٌ حادِثَةٌ، ولا اسمٌ حادِثٌ؛ فهو قديمٌ بجَميعِ أسمائِه وصِفاتِه جلَّ جلالُه، وتقدَّسَتْ أسماؤُه.
والقَدَمُ والرِّجْلُ صِفتانِ ثابِتَتَانِ لله عزَّ وجلَّ، مُنَزَّهَتان عن التَّكْييفِ والتّمثيلِ