مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما478
مسند احمد
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا بكر بن مضر، عن ابن الهاد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم، فقال لهم: " لقد أعطيت الليلة خمسا، ما أعطيهن أحد قبلي: أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة، وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ منه رعبا، وأحلت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة هي ما هي، قيل لي: سل فإن كل نبي قد سأل، فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله "
خصَّ اللهُ سُبحانَه وتَعالى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما لم يخُصَّ به أحَدًا مِنَ الأنْبياءِ قَبلَه، وفي هذا الحَديثِ يُخْبِرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِهذه الخِصالِ الَّتي لم تَجتَمِعْ كلُّها لأحَدٍ مِنَ الأنْبياءِ إلَّا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فيُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنهما: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عامَ غَزْوةِ تَبوكَ"، وكانَتْ في السَّنةِ التَّاسِعةِ مِنَ الهِجْرةِ، وتَبوكُ في أقْصى شَمالِ الجَزيرةِ العَربيَّةِ في مُنتَصَفِ الطريقِ إلى دِمَشْقَ، وكانَتْ آخِرَ غَزْوةٍ غَزاها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بنَفْسِه معَ الرومِ، "قامَ منَ اللَّيلِ يُصلِّي؛ فاجتَمَعَ وَراءَه رجالٌ من أصْحابِه يَحرُسونَه"، حتى لا يَنفُذَ إليه أحَدٌ منَ الأعْداءِ، "حتى إذا صَلَّى وانصرَفَ إليهم"، انْتَهى من صَلاتِه وتَوَجَّهَ إلى هؤلاء الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهم، "فقال لهم: لقد أُعْطيتُ الليلةَ خَمسًا، ما أُعْطيَهُنَّ أحَدٌ قَبْلي" يعني: أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خَصَّ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بخَمسِ خِصالٍ لم يَسبِقْ لنبيٍّ قَبلَه أنْ جُمِعَت له، أو خُصَّ بواحدةٍ منها، وأُولى هذه الخِصالِ: "أمَّا أنا فأُرسِلْتُ إلى الناسِ كلِّهم عامَّةً"، فشمِلَ العرَبَ والعَجَمَ وكلَّ الناسِ بدَعوتِه الشريفةِ، "وكان مَن قَبْلي إنَّما يُرسَلُ إلى قَومِه"، يَختَصُّ بقَومِه الذي أُرسِلَ فيهم كأنْبياءِ بني إسْرائيلَ فقدِ اختَصُّوا بدَعْوَتِهم بَني إسْرائيلَ فقطْ، والثانيةُ: "ونُصِرْتُ على العَدوِّ بالرعْبِ، ولو كان بَيني وبينَهم مَسيرةُ شَهرٍ لَمُلئَ منه رُعبًا"، يَقذِفُ اللهُ في قلوبِ أعْدائِه الخوفَ منه، وهو على بُعْدِ مَسيرةِ شَهرٍ، والثالثةُ: "وأُحِلَّت لي الغنائمُ"، وهي الَّتي يأخُذُها المُسلِمونَ في حَربِهم معَ الكُفَّارِ، "آكُلُها" بمَعنى: أنَّه يَحِلُّ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَن حارَبَ معَه أخْذُها وتَقْسيمُها، ومِن ثَمَّ الانتفاعُ بها، "وكان مَن قَبْلي يُعَظِّمونَ أكْلَها، كانوا يُحرِقونَها"، ولم تكُنْ تَحِلُّ لِلأنْبياءِ قَبْلَه، وإنَّما كانوا يَجْمَعونَها فتَأْتي نارٌ فتُحرِقُها، ولعلَّ الحِكْمةَ في إحْراقِ الغَنيمةِ؛ تَحقيقُ إخْلاصِ النيَّةِ لمَن حارَبَ، وأنَّها خالصةٌ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ. والرابعةُ: "وجُعِلَت لي الأرضُ مساجِدَ"، أباحَ اللهُ عزَّ وجلَّ لهذه الأُمَّةِ الصلاةَ حيثُ كانوا تَخْفيفًا عليهم، وتَيْسيرًا خَلا الحمامِ والمَقبرةِ والمكانِ النجِسِ، "وطَهورًا"، وكذلك التيمُّمُ بأيِّ جُزءٍ من أجْزائِها وتُربَتِها إذا انْعدَمَ الماءُ، "أيْنَما أدْرَكَتْني الصلاةُ تمسَّحْتُ وصلَّيْتُ" إظْهارًا لمَعنى: (مساجدَ وطَهورًا)، والتمَسُّحُ يُقصَدُ به التطَهُّرُ والتيَمُّمُ، "وكان مَن قَبْلي يُعَظِّمونَ ذلك"، لم يكُنْ للأُممِ السابقةِ أنْ تُصلِّيَ أو تَتطهَّرَ من جَميعِ الأرضِ، "إنَّما كانوا يُصلُّونَ في كَنائِسِهم وبِيَعِهم"، اختَصُّوا منها بالأماكِنِ المُخصَّصةِ للعِبادةِ كالكنيسةِ وأدْوارِ البِيَعِ، "والخامسةُ: هي ما هي" تَعْظيمًا وتَفْضيلًا لشأْنِها، وما فيها من خَيرٍ لأُمَّةِ الإسْلامِ! "قيلَ لي: سَلْ فإنَّ كلَّ نبيٍّ قد سألَ، فأخَّرْتُ مَسْأَلَتي إلى يومِ القِيامةِ، فهي لكم، ولمَن شهِدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ"، ومَعنى ذلك كما في الصحيحَيْنِ من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضِيَ اللهُ عنهما: "وأُعطيتُ الشفاعةَ" وشَفاعَتُه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم أقْسامٌ؛ منها الشَّفاعةُ العُظْمى المَذْكورةُ هنا، ومنها الشَّفاعةُ الَّتي تَكونُ للمُذْنِبينَ من أهْلِ التَّوْحيدِ، في إخْراجِهم مِنَ النَّارِ، وإدْخالِهمُ الجنَّةَ، أو زيادةِ درَجاتِهم في الجنَّةِ، ومنها الشَّفاعةُ في إدْخالِ الجنَّةِ مِن غيرِ حِسابٍ، أو رفْعِ الدَّرَجاتِ يَومَ القيامةِ، كلٌّ بحَسَبِ حالِه.