باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه 3
بطاقات دعوية
عن عبد الله بن عمر قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا؛ إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس؛ إذ مر به رجل جميل، فقال عمر: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل (40)، فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم! قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني. قال: كنت كاهنهم. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؛ قال: بينما أنا يوما في السوق؛ جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها (41)، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم؛ إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أسند صوتا منه، يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح! يقول: لا إله إلا أنت. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا؟ ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح , رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبى.
اللهُ سُبحانَه وتعالَى يَصْطَفي مِن خَلقِه مَن يَشاءُ؛ ليَقذِفَ في قَلبِه مِن أنْوارِ النُّبوَّةِ والهُدى، ويَفيضَ عليه مِن العَملِ والإلْهامِ ما يَشاءُ سُبحانَه، وكان عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه مِن هؤلاء المُحَدَّثينَ المُلهَمينَ الَّذين يَجْري الصَّوابُ على ألسِنَتِهم، أو يَخطُرُ ببالِهمُ الشَّيءُ، فيَكونُ -بفَضلٍ مِنَ اللهِ تعالَى وتَوْفيقٍ- كما أخبَرَ.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه لم يَسمَعْ والِدَه عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه يَقولُ عن شَيءٍ قطُّ: إنِّي أظنُّه كذا، إلَّا كان كما يظُنُّ وصدَقَتْ فيه فِراسةُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه.
ثمَّ أخبَرَ أنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه كان جالسًا يَومًا، فمَرَّ به رَجُلٌ جَميلٌ، قيل هو سَوادُ بن قارِبٍ الدَّوْسيُّ رَضيَ اللهُ عنه، فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: «لقَدْ أخْطَأَ ظَنِّي، أوْ إنَّ هذا علَى دِينِهِ في الجَاهِلِيَّةِ، أوْ لقَدْ كانَ كَاهِنَهُمْ»، والمعْنى: أنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه ظَنَّ شَيئًا، وهذا الظَّنُّ إمَّا خطَأٌ أو صَوابٌ، فإنْ كان صَوابًا فهذا الرَّجُلُ - سَوادُ بنُ قاربٍ- الآنَ إمَّا باقٍ على كُفْرِه ولم يُسلِمْ فهو مُستمِرٌّ على دِينِه في الجاهليَّةِ على عِبادةِ الأوْثانِ، وإمَّا كان كاهنًا قبْلَ أنْ يُسلِمَ؛ فكان سَوادٌ رَضيَ اللهُ عنه كاهنَ قَومِه في الجاهِليَّةِ. والجاهليَّةُ: هي المدَّةُ الَّتي تَسبِقُ بَعْثةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وسُمِّيَت بذلك؛ لكَثْرةِ جَهالاتِ القَومِ حينَها. والكِهانةُ: هي الإخْبارُ بالغَيبِ مِن غيرِ طَريقٍ شَرعيٍّ، وكانتْ مُنتشِرةً في الجاهليَّةِ، وكان مِن الكُهَّانِ مَن يَزعُمُ أنَّ له تابِعًا مِن الجِنِّ يُلْقي إليه الأخْبارَ، ومنهم مَن يدَّعي أنَّه يَستَدرِكُ ذلك بفَهمٍ أُعْطيَه، وأكثَرُ ما يُسمَّى هذا عرَّافًا.
فطلَبَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يُحْضِروا الرَّجُلَ له، فدُعِيَ سَوادٌ رَضيَ اللهُ عنه له، فقال له عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه ما قاله في غَيْبتِه مِن التَّردُّدِ في شأْنِه وما ظنَّه فيه، فقال سَوادٌ رَضيَ اللهُ عنه: إنَّه ما رَأى شَيئًا مِثلَ ما رَأى هذا اليومَ، حيثُ استُقبِلَ فيه رَجُلٌ مُسلمٌ بالكَلامِ الَّذي ذكَرْتَه يا عُمَرُ! فطلَبَ منه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه طلَبًا جازِمًا مُؤكَّدًا أنْ يُخبِرَه بحالِه، فأخبَرَه سَوادٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه كان كاهنَهم يُخبِرُهم بالمُغيَّباتِ في الجاهليَّةِ، وذلك مِن خلالِ تابِعٍ مِن الجِنِّ كان يُكلِّمُه ويَأْتيه بالأخْبارِ. فقال له عُمَرُ: فما أعجَبُ ما جاءتْكَ به جِنِّيَّتُكَ مِن أخْبارِ الغَيبِ؟ والجِنِّيَّةُ تَأْنيثُ الجِنِّيِّ، وأنَّثَه تَحْقيرًا له. وقيلَ: يَحتَمِلُ أنْ يكونَ قدْ عرَف أنَّ تابِعَ سَوادٍ مِنَ الجِنِّ أُنْثى، فقال سَوادٌ: بيْنَما أنا يومًا في السُّوقِ، جاءَتْني الجِنِّيَّةُ أعرِفُ فيها الفزَعَ والخَوفَ، فقالتْ لي: «ألمْ تَرَ الجِنَّ وإبْلاسَها»، أي: خَوفَها، أو حَيرَتَها، «ويَأسَها» مِنَ اليأْسِ الذي هو ضدُّ الرَّجاءِ، «مِن بعدِ إنْكاسِها»، أي: مِن بعْدِ انْقِلابِها على رَأسِها، ومَعْناه: أنَّها يئِسَتْ منِ اسْتِراقِ السَّمعِ مِن السَّماءِ الذي كانتْ تَعلَمُ منه أخْبارَ أهلِ الأرضِ بعْدَ أنْ كانت ألِفَتْه، فانقَلَبَتْ عن الاسْتِراقِ، وأيِسَتْ مِن السَّمعِ، «ولُحوقَها»، أي: ولُحوقَ الجِنِّ، «بالقِلاصِ» جَمعُ قَلوصٍ، وهي النَّاقةُ الشَّابَّةُ، «وأحْلاسِها» جَمعُ حِلْسٍ، وهو كِساءٌ يُجعَلُ تحتَ رَحْلِ الإبلِ على ظُهورِها تُلازِمُه، ومنه قيلَ: فُلانٌ حِلْسُ بَيتِه، أي: مُلازِمُه، والغرَضُ مِن هذا بَيانُ ظُهورِ النَّبيِّ العَربيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُتابَعةُ الجنِّ للعرَبِ، ولُحوقُهم بهم في الدِّينِ؛ إذ هو رسولُ اللهِ إلى الثَّقَلَينِ.
قال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: صَدَق سَوادٌ؛ بيْنَما أنا عِندَ آلهَتِهم، إذ جاء رَجُلٌ -قيلَ: هو ابنُ عَبسٍ شيخٌ أدرَكَ الجاهليَّةَ- بعِجلٍ فذبَحَه، فصرَخ به صارخٌ -لم أسمَعْ صارخًا قطُّ أشدَّ صوتًا منه- يقولُ: «يا جَلِيحْ»، أي: يا وَقِحُ، ومَعْناه: المُكافِحُ والمُكاشِفُ بالعَداوةِ، ويَحتَمِلُ أنْ يكونَ نادى رَجُلًا بعَينِه، أو مَن كان متَّصِفًا بذلك، «أمْرٌ نَجِيحْ» مِن النَّجاحِ، وهو الظَّفَرُ بالبُغْيةِ، «رَجلٌ فَصيح، يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ». فقام القَومُ، فأخْبَرَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا رأَى ذلك، عزَمَ على أنَّ يَعلَمَ سَببَ ذلك القولِ وما وراءَهُ، فسَمِعَ عمَرُ المناديَ يُنادي بهذا القولِ مرَّةً أُخرى، فما مَكَثُوا وتَعلَّقوا بشَيءٍ، إذْ ظَهَرَ القولُ بيْن النَّاسِ بخُروجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وقد كانتْ هذه القصَّةُ مِن أسْبابِ إسْلامِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفي الحَديثِ: ما يدُلُّ على فِطْنةِ عُمَرَ وذَكائِه، في كَونِه لم يقُلْ قطُّ لشَيءٍ: أظُنُّه هكذا، إلَّا كان كما يقولُ.
وفيه: دَلالةٌ واضِحةٌ على صِدقِ نُبوَّةِ نَبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ففيما جاءتْ به الجِنِّيَّةُ إلى الرَّجلِ، وفيما سمِعه عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه بأُذُنَيْه: ما يَشهَدُ بصِدقِ نُبوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.