باب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم1-2
سنن الترمذى
حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»: «هذا حديث حسن صحيح» وقد رواه قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم
هذا حَديثٌ عَظيمٌ، وأصلٌ مِن أُصولِ الإسلامِ، وفيه يُرشِدُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى ثِلاثِ خِصالٍ مِن أعْلَى خِصالِ الإيمانِ؛ مَن كمَّلَها فقدْ وجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ؛ فالإيمانُ له حَلاوةٌ وطَعمٌ يُذاقُ بالقُلوبِ، كما تُذاقُ حَلاوةُ الطَّعامِ والشَّرابِ بالفَمِ، وكما أنَّ الجَسدَ لا يَجِدُ حَلاوةَ الطَّعامِ والشَّرابِ إلَّا عندَ صِحَّتِه، فكذلك القَلبُ إذا سَلِمَ مِن مرَضِ الأهواءِ المُضلَّةِ والشَّهواتِ المُحرَّمةِ، وجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ، ومتى مَرِضَ وسَقِمَ لم يَجِدْ حَلاوةَ الإيمانِ، بلْ قدْ يَستحْلِي ما فيه هَلاكُه مِن الأهواءِ والمعاصي.
ومَن وجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ استلذَّ الطَّاعاتِ، وآثَرَها على أغراضِ الدُّنيا، وتحمَّلَ المشَاقَّ في سَبيلِ اللهِ تعالَى.
فالخَصلةُ الأُولى: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممَّا سِواهما، ومَحبَّةُ اللهِ تَنشَأُ مِن مَعرفةِ أسمائِه وصِفاتِه، والتَّفكيرِ في مَصنوعاتِه، وما فيها مِن الحِكَمِ والعَجائبِ، وتَحصُلُ مِن مُطالَعةِ نِعَمِه على العِبادِ؛ فإنَّ ذلك كلَّه يدُلُّ على كَمالِه وقُدرتِه، وحِكمتِه وعِلمِه ورَحمتِه، ومَحبَّةُ العبدِ لِخالقِه سُبحانه وتعالَى تَقودُ العبْدَ إلى الْتزامِ شَريعتِه وطاعتِه، والانتهاءِ عمَّا نَهى عنه.
ومَحبَّةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تابعةٌ لمَحَبَّةِ اللهِ، ويَلزَمُ مِن تلك المحبَّةِ اتِّباعُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أوامِرِه ونواهيه، كطاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَجِبُ أنْ تكونَ مَحبَّةُ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في قلْبِ كلِّ مسلِمٍ أعظَمَ مِن مَحبَّتِه لنفْسِه، ومَحبَّتِه لأبيهِ وأُمِّه، وابنِه وبِنتِه، وزَوجتِه، وصَديقِه وأقارِبِه، والناسِ أجمعينَ.
والخَصلةُ الثَّانيةُ: أنْ يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلَّا للهِ؛ فهذا حَثٌّ على التَّحابِّ في اللهِ، وهو مِن أَوثقِ عُرَى الإيمانِ، فليستِ المحبَّةُ مِن أجْلِ تَبادُلِ مَنافعَ وتَحصيلِ أغراضٍ دُنيويَّةٍ، وإنَّما جمَعَ بيْنَهما الحُبُّ في اللهِ، ويَلزَمُ مِن تلك المحبَّةِ نفْعُ المسلمِ لأخيه المسلمِ، وتَرْكُ إيذائِه، كما في حَديثِ الصحيحَينِ: «المُسلِمُ أخو المُسلِمِ، لا يَظلِمُه، ولا يُسْلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه، ومَن فرَّجَ عن مُسلِمٍ كُرْبةً، فرَّجَ اللهُ عنه كُربةً مِن كُرُباتِ يَومِ القيامةِ، ومَن ستَرَ مُسلِمًا ستَرَه اللهُ يَومَ القِيامةِ».
والخَصلةُ الثَّالثةُ: أنْ يَكرَهَ المسلمُ أنْ يَعودَ في الكُفْرِ، كما يَكرَهُ أنْ يُقذَفَ في النَّارِ؛ فإذا رسَخَ الإيمانُ في القلْبِ، وتحقَّقَ به، ووجَدَ العبْدُ حَلاوتَه وطَعْمَه؛ أحَبَّه، وأحَبَّ ثَباتَه ودَوامَه، والزِّيادةَ منه، وكَرِهَ مُفارقتَه، وكانتْ كَراهتُه لمُفارقتِه أعظَمَ عندَه مِن كَراهةِ الإلقاءِ في النَّارِ، فإذا وجَدَ العبْدُ حلاوةَ الإيمانِ في قَلْبِه أحَسَّ بمَرارةِ الكُفرِ والفُسوقِ والعِصيانِ.
قيل: وإنَّما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هذا تَحذيرًا وتَخويفًا للصَّحابةِ؛ لأنَّهم كانوا كُفَّارًا فأسلَموا، وكان في بَعضِ النُّفوسِ حُبُّ ما كان في الزَّمانِ الماضي، فبيَّنَ لهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ العَودَ إلى الكُفْرِ كإلْقاءِ الرجُلِ نفْسَه في النارِ؛ لأنَّ عاقِبةَ الكُفَّارِ دُخولُ نارِ جهنَّمَ، ونقْضُ التَّوبةِ والرُّجوعُ مِنَ التَّوبةِ إلى المعصيةِ أيضًا كإلْقاءِ الرجُلِ نفْسَه في نارِ جهنَّمَ، وهذا مِن عِظَمِ ذَنبِ الكُفْرِ والعَودةِ إليه.