باب العمرة
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا يعلى، حدثنا إسماعيل، قال:
سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين اعتمر، فطاف وطفنا معه، وصلى وصلينا معه، وكنا نستره من أهل مكة، لا يصيبه أحد بشيء
أحبَّ الصَّحابةُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أكثَرَ مِن حُبِّهم لأنفُسِهم، فحَرَصوا على القُرْبِ منه في حِلِّه وتِرْحالِه، وبَذَلوا أرْواحَهم فِداءً له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ عبدُ الله بنُ أبي أَوْفَى رَضيَ اللهُ عنه أنَّهمُ اعتَمَروا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان ذلك في عُمرةِ القَضاءِ، لمَّا صدَّ المُشرِكون النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن العُمرةِ عامَ الحُدَيبيةِ في السَّنةِ السادسةِ مِن الهِجرةِ، تَصالَحَ معهم على أنْ يَرجِعَ ويَعودَ للعُمرةِ العامَ المقبِلَ، فكانت في ذي القَعدةِ مِن السَّنةِ السَّابعةِ مِن الهِجرةِ. فلمَّا دَخلَ مكَّةَ طافَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِالكَعبِة سَبعًا وطاف الصَّحابةُ الكرامُ رضِيَ اللهُ عنْهم معه، وسَعَى بيْن الصَّفا والمَروةِ سَبْعًا وسَعَوا معه، ويَبتدِئُ الشَّوطُ الأوَّلُ مِن جبَلِ الصَّفا ويَنْتهي بجبَلِ المَروةِ، والشَّوطُ الثَّاني عكْسُ ذلك؛ مِن المَروةِ إلى الصَّفا، والشَّوطُ الثالثُ مِثلُ الأوَّلِ، وهكذا إلى أنْ يَتِمَّ السَّعيُ في الشَّوطِ السابعِ، وكان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم يَلْتفُّون حَولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويَستُرونه أثناءَ طَوافِهم وسَعْيهم معه مِن أهْلِ مكَّةَ المشركينَ؛ مَخافةَ أنْ يَرْمُوه بِشَيءٍ يُؤذونَه به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
فسَأَلَه رجُلٌ عن دُخولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الكَعبةَ في هذه العُمرةِ، فأجاب بأنَّه لم يَدخُلْها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ذلك الوقْتِ.
وفي هذا الحَديثِ أنَّ رجُلًا سَأَلَ عبدَ اللهِ بنَ أبي أوْفَى رَضيَ اللهُ عنه عن الذي قالَه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في خَديجةِ رَضيَ اللهُ عنها، فأخْبَر أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «بَشِّروا خَديجةَ ببَيتٍ في الجنَّةِ مِن قَصَبٍ»، أي: قصْرٍ في الجنَّةِ مِن لُؤلؤٍ مُجوَّفٍ ويَاقوتٍ، «لا صخَبَ فيه ولا نَصَبَ»، أي: لا صِياحَ فيه مِن صِياحِ أهلِ الدُّنيا، ولا تَعَبَ يُصيبُ ساكنَه، فما مِن بَيتٍ في الدُّنيا يَجتمِعُ فيه أهْلُه إلَّا كان بيْنهم صَخَبٌ وجَلَبةٌ، وكان في إصلاحِه وتَهيئتِه نَصَبٌ وتعَبٌ، فأخْبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ قُصورَ أمِّ المؤمنينَ خَديجةَ رَضيَ اللهُ عنها في الجنَّةِ بخِلافِ ذلك؛ ليس فيها شَيءٌ مِن الآفاتِ التي تَعْتري أهْلَ الدُّنيا، وكذا سائرُ بُيوتِ أهْلِ الجنَّةِ لَيس فيها أيُّ مَظهَرٍ مِن مَظاهِرِ التَّعَبِ النَّفسيِّ أو الجسَديِّ.
ومُناسَبةُ نفْيِ هاتينِ الصِّفتينِ «لا صخَبَ فيه ولا نَصَبَ»: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَّا دَعا إلى الإيمانِ، أجابَت خَديجةُ طَوعًا، فلمْ تُحْوِجْه إلى رفْعِ صَوتٍ ولا مُنازَعةٍ ولا تَعَبٍ في ذلك، بلْ أزالَتْ عنه كلَّ نَصَبٍ، وآنسَتْه مِن كلِّ وَحشةٍ، وهوَّنَت عليه كلَّ عَسيرٍ، فناسَبَ أنْ يكونَ مَنزلُها الذي بشَّرَها به ربُّها بالصِّفةِ المُقابِلةِ لذلك.
وفي الحديثِ: فضْلُ أمِّ المؤمنين خَديجةَ رَضيَ اللهُ عنها، وتَبشيرُها بالجَنَّةِ.