باب تغميض الميت

باب تغميض الميت

حدثنا عبد الملك بن حبيب أبو مروان حدثنا أبو إسحاق - يعنى الفزارى - عن خالد الحذاء عن أبى قلابة عن قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة قالت دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أبى سلمة وقد شق بصره فأغمضه فصيح ناس من أهله فقال « لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ». ثم قال « اللهم اغفر لأبى سلمة وارفع درجته فى المهديين واخلفه فى عقبه فى الغابرين واغفر لنا وله رب العالمين اللهم افسح له فى قبره ونور له فيه ». قال أبو داود وتغميض الميت بعد خروج الروح سمعت محمد بن محمد بن النعمان المقرئ قال سمعت أبا ميسرة رجلا عابدا يقول غمضت جعفرا المعلم وكان رجلا عابدا فى حالة الموت فرأيته فى منامى ليلة مات يقول أعظم ما كان على تغميضك لى قبل أن أموت.

كان النبي صلى الله عليه وسلم معلما ومربيا، ومن ذلك أنه كان يعلم المسلمين ويربيهم على الصبر عند مصيبة موت قريب أو عزيز، وعلمنا ماذا نقول وماذا ندعو به، وترك الصخب وفاحش القول عند احتضار الموتى
وهذا الحديث واقعة عملية، حيث حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه وهو يموت، فتروي أم سلمة رضي الله عنها -وهي زوجة أبي سلمة في ذلك الوقت- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة رضي الله عنه -وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعود المرضى- «وقد شق بصره»، أي: بقي بصره منفتحا ومتسعا بعد أن خرجت روحه إلى بارئها، وظل شاخصا، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم أنه مات، فأغمض رسول الله صلى الله عليه وسلم عيني أبي سلمة رضي الله عنه؛ لئلا يقبح منظره، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الروح إذا قبض تبعه البصر»، يحتمل أن يكون علة للإغماض، كأنه قال: أغمضته؛ لأن الروح إذا خرج من الجسد تبعه البصر في الذهاب، فلم يبق لانفتاح بصره فائدة، أو أن يكون بيانا لسبب بقاء عينيه مفتوحتين، فلما أغمض النبي صلى الله عليه وسلم عيني أبي سلمة رضي الله عنه، وقال مقالته؛ تأكد الحاضرون أنه قد مات، «فضج ناس من أهله»، أي: رفعوا الصوت بالبكاء وصاح ناس من أهل أبي سلمة رضي الله عنه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الفحش وأمرهم بقول الخير والدعاء بالخير، فقال: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير»، وهذا إشارة إلى نهيه صلى الله عليه وسلم إياهم عن الضجة؛ كأنهم قالوا: يا ويلاه علينا! ويا مصيبتاه علينا! فنهاهم عن ذلك، فلا تدعوا بالويل والثبور وما أشبه ذلك على عادة الجاهلية، ولكن قولوا خيرا؛ مثل أن يدعوا للميت بالمغفرة والرحمة وغير ذلك، وبمثل ما سيأتي من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة، وأيضا ينبغي للإنسان أن يدعو لنفسه بالخير ويقول ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرا منها، بعد قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون
وعلل النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة يؤمنون على الدعاء من خير أو شر ويقولون: آمين، وهذا مظنة لقبول الدعاء؛ فدعاء الملائكة مستجاب، فلا يجوز للشخص أن يدعو بما فيه مضرة له، أو لغيره، والمراد بالملائكة ملك الموت وأعوانه، أو عموم الملائكة الذين يحضرون الميت، وهذا من تأديب النبي صلى الله عليه وسلم وتعليمه لأمته بما يقال عند الميت
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة فقال: «اللهم اغفر لأبي سلمة»، أي: امح له ذنوبه وخطاياه، «وارفع درجته في المهديين»، أي: اجعله عندك يا الله مع الذين هديتهم للإسلام سابقا، والهجرة إلى خير الأنام، أو المعنى: اجعله مع الذين هديتهم يا الله، وصارت لهم الدرجات العالية في الجنة، «واخلفه في عقبه»، أي: كن خليفة له في رعاية أمره وحفظ مصالح أهله وأولاده، فلا تكلهم إلى غيرك. وفي رواية: «واخلفه في تركته» وهو ما تركه بعد موته، «في الغابرين»، أي: الباقين في الأحياء من الناس، «وأفسح له في قبره»، وفسرتها رواية: «اللهم أوسع له في قبره»، أي: وسع له قبره اتساعا فسيحا، وهو من نعيم المؤمن في القبر؛ وذلك أن القبر إما أن يوسع لصاحبه، وإما أن يضيق على صاحبه، «ونور له فيه»، أي: في قبره وادفع عنه الظلمة، وهذا أيضا من النعيم الذي يشمل المؤمن
وفي الحديث: إغماض عين الميت
وفيه: الإرشاد إلى الصبر وقول الخير عند مصيبة الموت
وفيه: أنه يدعى للميت عند موته ولأهله ولعقبه بأمور الآخرة والدنيا
وفيه: دلالة على أن الميت ينعم في قبره أو يعذب
وفيه: تعليم ما يقال عند الموت من الذكر والدعاء، وقول الخير، والاسترجاع، والدعاء لمن يخلفه، فينبغي التأسي به صلى الله عليه وسلم
وفيه: بيان حضور الملائكة عند المريض والميت، وتأمينهم على دعاء الداعين في ذلك المكان
وفيه: بيان استجابة دعاء الملائكة، وأنه لا يرد