باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته 1
بطاقات دعوية
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني) الآية وقال عيسى عليه السلام (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَؤوفًا رَحيمًا، كانَ كَثيرًا ما يَدعو للأُمَّةِ ألَّا تُهلَكَ، كما هَلَكتِ الأُمَمُ السَّابقةُ، وهذا الحديثُ يُبيِّنُ تَضرُّعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، واجتهادَه في الدُّعاءِ لأُمَّتِه، وفيه يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنهما: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَلا قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ في إبراهيمَ عليه السَّلامُ وقد دَعا ربَّه دَعوةً في حقِّ أُمَّتِه، فقالَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، أي: إنَّ الأصنامَ التي كان يَعبُدُها النَّاسُ أضلَّت كَثيرًا منهم عنِ الحقِّ، فأشرَكوها في عِبادةِ اللهِ، فمَن تَبِعَني مِنَ النَّاسِ وتَرَكَ الشِّركَ وعِبادةَ الأصنامِ، فهو من أتباعي ومِنَ المؤمنينَ، فيَستحِقُّ المغفرةَ والرَّحمةَ، أمَّا مَن عَصى وظلَّ على عِبادةِ الأصنامِ، فأمرُه إلى اللهِ: إن شاءَ هَداهُ، وإن شاءَ أعماه عنِ الهُدى، واللهُ هو الغفورُ الرَّحيمُ، يَغفِرُ لمَن يَشاءُ ويَرحَمُ مَن يَشاءُ بأن يَتُوبَ عليه، فيَتوبَ عن شِركِه؛ لأنَّه لا يَغفرُ له مع شِركِه؛ لقولِه عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
ثُمَّ تَلَا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ دَعوةَ عيسى عليه السَّلامُ في حقِّ أُمَّتِه: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، أي: يا ربِّ، الأمرُ أمرُك فيما تَرى في النَّاسِ، فإن تُعَذِّبهم فإنَّهم عِبادُك، ولا رادَّ لعذابكَ، وإن تَغفِر لهم فأنتَ القويُّ ذو الحِكمةِ والتَّدبيرِ فيما تَفعَلُ.
ولكنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعدَ أن تَلا ذلك أشفَقَ على أُمَّتِه بأكمَلِها، «فرفَعَ يَديْهِ وقال: اللَّهُمَّ أُمَّتي أُمَّتي، وبَكى»، فطَلَبَ رَحمةَ ربِّه ورِفقَه بها كلِّها، ويدُلُّ ذلك على شِدَّةِ رَحمتِه بأُمَّتِه، وأنَّه يَطلُبُ لها الرَّحمةَ العامَّةَ والمَغفِرةَ والخَيرَ المُتوالِيَ، واللهُ سُبحانَه مع عِلمه بما تُخفي الصُّدورَ وما تُكِنُّه الأفئدةُ أرسَلَ جِبريلَ عليه السَّلامُ ليَسألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن سَببِ بُكائه، وهو أعلَمُ به سُبحانَه وتَعالَى، قيلَ: الحِكمةُ في إرسالِ جِبريلَ لسؤالِه إظهارُ شرفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه بالمَحلِّ الأعلى، فسَيَرضى، ويُكرَمُ بما يُرضيه. فلما أتى جِبريلُ عليه السَّلامُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَألَه، فأخبَرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما قالَ -وهو أعلَمُ- فقالَ اللهُ: «يا جِبريلُ، اذهَبْ إلى محمَّدٍ، فقُلْ: إنَّا سنُرضِيكَ في أُمَّتِك ولا نَسوؤُك»، أي: سنُرضيكَ بإعطائكَ ما طلَبْتَه لأُمَّتِكَ مِنَ اللهِ، ولا نُصيبُكَ فيها بما يُلحِقُ بكَ الحُزنَ والأذى، كما قالَ اللهُ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، وهذا من عَظيمِ البُشرَياتِ لأُمَّةِ الإسلامِ. وهذا الحديثُ يُوضِّحُ مَعنى الآيةِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وفي الحديثِ: بَيانٌ لِمَا كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الشَّفَقَةِ، والدُّعاءِ لأُمَّتهِ.
وفيه: بَيانُ المكانةِ العُليا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عندَ ربِّه، حيثُ إنَّه تَعالَى وعَدَه أن يُرضيَه في أُمَّتِه، ولا يَسوءُه.
وفيه: بِشارةٌ عَظيمةٌ لهذه لُأمَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.