باب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم11 -3

سنن الترمذى

باب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم11 -3

حدثنا علي بن خشرم قال: أخبرنا عيسى بن يونس، عن عمران بن زائدة بن نشيط، عن أبيه، عن أبي خالد الوالبي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك «.» هذا حديث حسن غريب، وأبو خالد الوالبي اسمه: هرمز "‌

عُبوديَّةُ اللهِ هي أعْلى المَقاماتِ وأشْرَفُها، وهي الغايةُ من خَلْقِ الإنسانِ، وعندَما يَتفرَّغُ لها الإنسانُ، ينالُ الخيْرَ العميمَ، لكن إنْ غَفَلَ عنها، وانْشَغَلَ بالدُّنيا، كان ذلك هو الخُسْرانَ الحقيقيَّ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ أبو هُرَيْرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "تَلا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أي: قَرَأَ على الصَّحابَةِ قوْلَهُ تَعالى: "{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} والمعنى: مَن كان يُريدُ بعَمَلِهِ الآخِرَةَ؛ نَزِدْ له في عَمَلِهِ الحَسَنِ، فنَجْعَلْ له الحَسَنَةَ بعَشْرٍ، إلى ما شاء ربُّنا من الزيادَةِ، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20]، أي: وَمَنْ كان يُريدُ بعَمَلِهِ الدُّنيا، ويَسعَى لها لا للآخِرةِ، نُؤتِه ما قَسَمْنا له منها.
ثم قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "يقولُ اللهُ: ابنَ آدَمَ!"، أي: يُنادي على ابنِ آدَمَ قائلًا له: "تفرَّغْ لعِبادتي"، والمُرادُ من التفرُّغِ للعِبادَةِ: إيثارُها على حُظوظِ الدُّنيا، والإتيانُ بما أَمَرَ به منها، فلا تُلْهيهِ عن ذِكْرِ اللهِ، لا أنَّه لا يَفعَلُ إلَّا العِبادَةَ، بل لا يَنشغِلُ عن ربِّهِ، فيكُونُ في كلِّ أحوالِهِ وأعمالِهِ في طاعتِه، فلا تُلْهِيهِ تِجارةٌ أو بيعٌ عن ذِكرِ اللهِ وفَرائضِهِ.
ثمَّ بيَّن سُبحانَه وتَعالى ما يُعطيهِ لفاعِلِ ذلك: "أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى" والمُرادُ بالغِنى: غِنى النَّفْسِ والرِّضا بما قَسَمهُ اللهُ، ويحصلُ في قلبِهِ قَناعَةٌ تامَّةٌ، "وأَسُدَّ فَقْرَكَ" والمُرادُ أنَّه لا يَبْقى للفَقْرِ ضَرَرٌ، بل يُغْنيهِ اللهُ في نَفْسِهِ، ويُبارِكُ له في القليلِ من مالِه، "وإلَّا تَفْعَلْ" يعني: وإنْ لم تفْعَلْ ما أَمَرْتُك به من التَّفرُّغِ للطاعَةِ والعِبادَةِ، وآثَرْتَ الدُّنيا على الآخِرةِ "مَلأْتُ صَدْرَكَ شُغْلًا"، أي: كثَّرْتُ شُغْلَكَ بالدُّنيا، فظَلَلْتَ مُنشغِلًا بغَيرِ العِبادةِ، مُقبِلًا على الدُّنيا وأعمالِها وأشغالِها، ولا يَزالُ قَلْبُك غيرَ راضٍ "ولم أَسُدَّ فَقْرَكَ" فتُنزَعُ البَرَكةُ من مالِكَ، ويَبْقى القَلْبُ مُتلهِّفًا على الدُّنيا غيرَ بالِغٍ منها أمَلَهُ، فيَحرِمُكَ اللهُ مِن ثَوابِهِ وفَضلِهِ، وتَزيدُ تعَبًا في الدُّنيا دونَ شُعورٍ بالغِنى.
وفي الحديثِ: الحثُّ والتَّرغيبُ في العِبادَةِ، وتَرْكُ الانْشِغالِ بالدُّنيا.